سوريا اليوم تقف أمام مرآة التاريخ، وصورتها المرتسمة هناك غامضة ومقلقة. بلدٌ عُرف لعقود عبر ديكتاتوريةٍ وحروبٍ وتقاطعات مصالح الآخرين يدخل مرحلة تجريبية سياسية غير مسبوقة في الشرق الأوسط منذ إعادة الإعمار ما بعد الحرب العالمية الثانية. الخامس من أكتوبر أصبح موعداً مسجلاً في الذاكرة السياسية: أول انتخابات برلمانية بعد سقوط نظام بشار الأسد. لكنها ليست مجرد صناديق اقتراع، بل اختبار حقيقي لمدى قدرة المشروع السوري الجديد على الحياة، مشروع يحاول إعادة خياطة فكرة الدولة من أوصال ممزقة لمجتمع وهوية وأرض.
المفارقة أن الانتقال هنا ليس احتفالاً بالشعارات بقدر ما هو تمرين بارد على الحسابات. الرئيس المؤقت أحمد الشرع تجنّب الخطاب الرمزي وفضّل رهاناً على مركزية صارمة في السلطة مع لامركزية في الخدمات، أي بناء نموذج إداري مرن في شكله، قاسٍ في جوهره. وفي هذه الخريطة تلعب تركيا الدور الحاسم كجار وحيد قادر على حسم ملفات الأمن والتجارة واللوجستيات والطاقة دفعة واحدة.
الصورة أقرب لعملية جراحية معقدة، تُخاط فيها الجروح على شريان نابض. الهدف أن يتحول الفوضى إلى منظومة يمكن التحكم بها، بحيث تذوب الفصائل المسلحة في مؤسسات الدولة لا العكس. حتى آلية الانتخابات نفسها، غير المباشرة، التي تمنح الرئيس حق تعيين ثلث النواب، فجرت جدلاً واسعاً حول الشرعية والانفتاح. لكن هذا النمط أصبح جزءاً ثابتاً من البنية الدستورية الانتقالية وأُعلن رسمياً كخيار معتمد.
سوريا الآن على حافة تجربة قاسية: الرهان ليس على مظهر أنيق، بل على منع الانهيار الكامل. نجاح هذه التجربة أو فشلها لن يرسم مستقبل دمشق وحدها، بل مسار الإقليم بأسره.
الإطار السياسي: كيف صُممت انتخابات أكتوبر ولماذا يريد دمشق انتقالاً مضبوطاً
البنية القانونية واضحة وقاسية: 210 مقاعد، ثلثاها يمر عبر هيئات انتخابية متدرجة، والثلث الباقي يعيّنه الرئيس. المبرر أن الانتخابات المباشرة وسط نزاعات مفتوحة ومؤسسات متآكلة كانت ستعيد إنتاج سطوة قادة الميليشيات لا إرادة الشعب. المنتقدون يشيرون إلى معايير غامضة في الترشيح و«حصة التكنوقراط» الموقّعة من الرئيس، معتبرينها أداة فرز انتقائي. لكن المدافعين يرونها تسوية مؤقتة بين شبح التفكك وحاجة الخروج من «الفيدرالية العسكرية» التي مزقت البلد سنوات طويلة. البعض يقارنها بالنظام الرئاسي المطلق السابق، لكن المؤيدين يردون بأن المدة محصورة بالمرحلة الانتقالية، وصلاحيات البرلمان محدودة حتى لا ينزلق البلد نحو فراغ مؤسسي قبل الدستور النهائي. هكذا، ورغم الجدل، باتت هذه الصيغة واقعاً سياسياً ملموساً.
إرث الحرب بالأرقام: الديموغرافيا، التعليم، البنية التحتية، الاقتصاد
الانتخابات تدخل بلداً مكسور التركيبة السكانية ومثقل بتقارير اجتماعية أقرب لنشرات إنذار. الأمم المتحدة تقول إن سوريا ما زالت أكبر حالة نزوح في العالم: مئات الآلاف بحاجة لإعادة توطين، وملايين محتاجون إلى حماية وخدمات أساسية. التعليم تلقى الضربة الأقسى: أكثر من 2.45 مليون طفل خارج المدارس، وأكثر من مليون مهددون بالخروج النهائي من النظام التعليمي، وأكثر من 7 آلاف مدرسة مدمرة أو متضررة. هذه ليست أرقاماً جامدة، بل مؤشرات على إنتاجية المستقبل وفرص النمو التي تتبخر أمام أعيننا.
يضاف إلى ذلك زلزال 2023 المدمّر الذي كبّد البلاد خسائر تجاوزت 5.1 مليار دولار، أي ما يعادل 10% من الناتج المحلي قبل الحرب. الضربة طالت حلب وإدلب، ما جعل خطوط الإمداد الإنسانية عبر الشمال مسألة حياة أو موت للاقتصاد بأكمله.
الزراعة بدورها تنزف. بعد موسمين ضعيفين دخلت سوريا عام 2025 تحت رحمة جفاف قاسٍ: منظمة الأغذية والزراعة قدرت المحصول بـ1.2 مليون طن من الحبوب، أي أقل من 60% من المعدل الطبيعي، مع تراجع الهطولات المطرية إلى نصف المستوى المعتاد. النتيجة: اعتماد كامل على الاستيراد وضغط متزايد على الميزان التجاري في وقت لم يتعلم الاقتصاد بعد كيف يعيش من دون ريع الحرب.
أما النفط والغاز فهما العصب الحساس. إنتاج ما قبل الحرب البالغ 380 إلى 400 ألف برميل يومياً تقلص في سنوات الانهيار إلى ما بين 30 و60 ألفاً. المعضلة بنيوية: أغلب الحقول في الشمال الشرقي كانت خارج سيطرة الدولة. لكن في سبتمبر 2025، وللمرة الأولى منذ 14 عاماً، شحنت سوريا 600 ألف برميل من طرطوس. خطوة رمزية بقدر ما هي اختبار عملي: هل تستطيع دمشق تحويل ثروتها الخام إلى سيولة من دون أن تسقط مجدداً في فخ العقوبات.
الأمن: من «الفيدرالية العسكرية» إلى وحدة السيطرة
الخلافة المكانية لـ«داعش» لم تعد قائمة، لكن الخطر كظاهرة لم يختفِ، بل تغيّر شكله: شبكة هجينة، خلايا مستقلة، رهانات على معسكرات السجون وعمليات «من أسفل إلى أعلى». هذا يفرض تخطيطاً مركزياً وقيادة موحدة، وهو بالضبط ما يصرّ عليه دمشق. بالتوازي، واشنطن تعيد صياغة وجودها: نقاش علني حول دمج القواعد وتقليص القوات. أي خطأ في هذا التوازن يترك أثراً مباشراً: إن تراخيتَ، عاد النشاط التخريبي؛ وإن ضغطتَ في الاتجاه الخاطئ، غذّيت شبكات التجنيد السرية.
ملف آخر لا يقل حساسية: قوات سوريا الديمقراطية / الإدارة الذاتية. في القانون التركي، جوهرها المتمثل في PYD/YPG يُعدّ امتداداً لحزب العمال الكردستاني، والحزب نفسه مصنّف إرهابياً في لوائح الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. القضية ليست مصطلحات، بل منظومة قانونية كاملة للأمن الإقليمي. أنقرة تنطلق من التطابق العضوي بين YPG وPKK في البنية واللوجستيات والأيديولوجيا، وتطالب بنزع سلاحهم ودمجهم. ومن منظور دمشق، هذا ينسجم مع مبدأ احتكار الدولة وحدها لحق استخدام القوة.
الشمال يعني أيضاً العامل التركي الصرف. أنقرة نفذت خلال السنوات الأخيرة أربع عمليات محورية (درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام، درع الربيع)، وأنشأت منطقة عازلة، وتربط أي انفتاح اقتصادي بتفكيك الجناح المسلح في المناطق الكردية. وعندما وقعت الحكومة السورية المؤقتة في مارس خريطة طريق لدمج قوات سوريا الديمقراطية، ثم شددت شروطها، سارعت تركيا إلى التماهي مع الأجندة: «نزع سلاح، إلغاء التسييس، إدماج». وهذه ليست شعارات، بل مواقف رسمية معلنة من وزارة الخارجية.
أما في الجنوب، فهناك عقدة أخرى: أزمة في أوساط الدروز في السويداء، صدامات مع مجموعات بدوية، وحالات تدخل إسرائيلي مباشر. ضربات يوليو على دمشق أظهرت أن إسرائيل لا تتسامح مع أي سيناريو عسكري قرب حدودها. الآن، بوساطة أميركية، يُبحث «نموذج خفض التصعيد» يقوم على وقف تحركات القوات الثقيلة والتوقف عن الضربات. إنها معادلة واقعية باردة: تحييد العناصر التي تفجّر المشهد السياسي، ولو مؤقتاً.
تركيا كمرساة ارتكاز: من الأمن إلى الاقتصاد
المفارقة أن الدولة التي كانت رأس الحربة ضد الأسد، أصبحت في المعادلة الجديدة المهندس الأول لإعادة «خياطة» سوريا في النسيج الإقليمي. الأساس القانوني لهذا التحول لا يقتصر على براغماتية 2025، بل يعود إلى وثائق سابقة، أبرزها اتفاقية أضنة 1998 الخاصة بمكافحة PKK. عملياً، عاد التنسيق حول الحدود، والإجراءات المشتركة لمنع بروز أي تشكيلات مسلحة خارج الدولة، بل حتى خط التواصل المباشر لإدارة التكتيك على الأرض عاد إلى العمل.
الاقتصاد بدأ يترجم هذا التلاقي بأرقام ملموسة. في 2010 بلغ حجم التبادل التجاري 2.3 مليار دولار، ثم انهار إلى نصف مليار تقريباً. لكن في 2025، ومع عودة التطبيع، تسارعت التجارة الثنائية، فاقتربت خلال سبعة أشهر فقط من مستوى العام 2024 كاملاً. بالتوازي، هناك تفاهمات حول إعادة تشغيل خط السكك الحديدية بين غازي عنتاب وحلب، واستئناف النقل البري والجوي (مع شركة SunExpress وخطط لاحقة)، إضافة إلى دخول مباشر للشركات التركية في إعادة إعمار المطارات والجسور والطرق. هذا ليس حبرًا على ورق، بل عقود مرفقة بخطوط إمداد، وتدفّق بضائع عبر المعابر الشمالية ترصده بعثات الأمم المتحدة.
الاختراق الأبرز يظهر في قطاع الطاقة. تركيا عقدة وصل وضامن للتدفق، وأذربيجان الذراع الموردة. بعد تفاهمات يوليو وأغسطس، انطلقت إمدادات الغاز الطبيعي إلى سوريا عبر ممر كيليس، بهدف يصل إلى 2 مليار متر مكعب سنوياً في المرحلة الأولى. بالنسبة لسوريا، هذا يعني تشغيل محطات كهرباء بطاقة 1.2 غيغاواط تقريباً، وتخفيف العجز عن المنازل والمصانع. حالة نادرة يلتقي فيها الاقتصاد والسياسة في نقطة تعاون لا صدام.
الطاقة والموارد: كيف يعمل «القلب» من دون عودة لشبح العقوبات
العقبتان واضحتان. الأولى: الانخفاض الهيكلي في الإنتاج، من 380–400 ألف برميل يومياً قبل الحرب إلى القاعدة المتواضعة الحالية. الثانية: منظومة العقوبات ومتطلبات الامتثال. صحيح أن واشنطن فتحت جزئياً «الممر الأخضر» للتعاملات النفطية بعد انتقال السلطة، ما سهّل دخول التجار الدوليين، لكن ذلك لا يلغي الحاجة إلى شفافية العقود وهوية المستفيدين. لذا، فإن استئناف تصدير النفط السوري من طرطوس ليس مجرد عائدات مالية، بل أيضاً اختبار للانضباط: هل ستكون السجلات نظيفة أم سنهدر نافذة الفرصة؟
في الوقت نفسه، تحتاج الزراعة إلى حزمة دعم مضاد للدورة: إدخال سريع للبذور والأسمدة، دعم للري، تأمين المخاطر، حتى لا يتكرر موسم كارثي ثالث. هذه البنود موجودة على جداول الأولويات الإنسانية، لكن يجب ربطها بالموازنة والممرات اللوجستية. هنا، مرة أخرى، الشراكة مع تركيا حاسمة: عبور، خدمات، وصول إلى الأسواق.
العقدة الجنوبية: هل يغلق «ميثاق السويداء» الثغرة؟
القوس الجنوبي معادلة دقيقة. بذور الاحتجاج في السويداء ظهرت منذ 2023، وفي 2025 تطورت إلى صدامات مع مجموعات بدوية، بينما شنّت إسرائيل ضربات على أهداف في دمشق لإظهار «صفر تسامح» مع أي تهديد قرب الحدود. الحل هنا ليس شعارات بل ضمانات تعاقدية: بروتوكول ملحق بالاتفاق الوطني، أو ما يمكن تسميته «ميثاق السويداء»، يحدد شرطة محلية، حصص تمثيل، حظر صارم لأي تشكيل مسلح موازٍ، كل ذلك ضمن الوزارات وتحت مراقبة خارجية. هذه لحظة يحتاج فيها البلد إلى برودة الحساب أكثر من حرارة الخطاب.
المسألة الكردية: من نزع السلاح إلى إعادة الدمج عبر صناديق الاقتراع
قوات سوريا الديمقراطية وما يرتبط بها من هياكل في شمال شرق البلاد تمثل الاختبار الأصعب لوحدة الدولة. أنقرة تقولها بصراحة: YPG/PYD = PKK في الجوهر والممارسة، وأي «خصوصية حكم ذاتي» ليست سوى ثغرة تعني عودة الإرهاب. دمشق تتماشى مع هذا الخط. الطريق العملي يقوم على ثلاث مراحل: تسليم السلاح بشكل جماعي مقابل عفو عن الجرائم غير المثقلة؛ تدقيق صارم في اختيار العناصر المؤهلة للخدمة العامة والأجهزة الأمنية عبر قواعد بيانات؛ وتصفية «القوى الداخلية» الموازية، مع تحويل من يُقبل منهم إلى مراكز تدريب تابعة لوزارتي الدفاع والداخلية. من يرفض، يخضع لنموذج مكافحة الإرهاب، حيث الأولوية للعمليات الخاصة وضرب شبكات الإمداد. هذا التصميم مطروح علناً، مع تأكيد على دمج المقاتلين السابقين في مؤسسات الدولة.
لكن الخطر لا يقتصر على ذلك: معسكرات تضم آلافاً من مقاتلي داعش السابقين تظل قنبلة موقوتة. هنا لا بد من شراكة مع الأميركيين والأوروبيين لإعادة المحاكمة أو الترحيل، وضمان إدارة من تبقى، وإلا فإن أي إصلاح لقوات سوريا الديمقراطية سيبنى على رمال متحركة. مراكز الأبحاث تحذر: «داعش» كشبكة يعيش أطول من أي جغرافيا.
مشاريع سورية – تركية مشتركة: الطاقة، النقل، الدفاع، والخدمات الإنسانية
التقارب بين دمشق وأنقرة لم يعد مجرد مناورة دبلوماسية، بل ورشة عمل حقيقية لبناء نظام إقليمي جديد. ما يتشكل ليس تحالفاً كلاسيكياً، بل «شبكة تكاملية» من مشاريع متوازية، كل واحد منها يعالج أزمة محددة على الأرض.
الطاقة
العنوان الأبرز هو الغاز. تركيا، بصفتها عقدة عبور للغاز الأذربيجاني، فتحت فرعاً إلى سوريا عبر كيليس. الحديث يدور عن 2 مليار متر مكعب سنوياً في المرحلة الأولى، تكفي لتشغيل محطات كهرباء بطاقة نحو 1.2 غيغاواط. في بلد بالكاد يحصل مواطنوه على ساعات محدودة من الكهرباء يومياً، هذه ليست مسألة اقتصادية فحسب، بل رهان على شرعية السلطة ذاتها.
كما تجري محادثات حول مشاركة شركات تركية وأذربيجانية في تحديث مصافي حمص لزيادة إنتاج البنزين والديزل وتقليل الاعتماد على التهريب. وعلى المدى البعيد قد تصبح تركيا القناة الرئيسية لتصدير النفط السوري، شرط تجاوز العقوبات والاندماج في سلاسل الإمداد «الرمادية» التي ينشط فيها تجار المنطقة.
النقل والبنية التحتية
السكك الحديدية بين غازي عنتاب وحلب تعود إلى الواجهة. هذا الخط كان رمزاً للتواصل الإقليمي قبل أن تمزقه الحرب. إعادة تشغيله تعني حركة ركاب وبضائع، وربطه بمشاريع الصين في الممرات البرية يفتح باباً للتجارة العابرة للقارات.
الطرق في الشمال ستُعاد إعمارها عبر مقاولين أتراك. الربح متبادل: أنقرة تحصل على عقود وإشراف على الجودة، ودمشق تنال ما ينقصها من معدات وموارد. في الطيران، تستعد شركة SunExpress لإعادة تشغيل رحلات بين المدن التركية ودمشق، ثم إلى حلب، ما يعني جسراً مباشراً لملايين السوريين في الشتات التركي مع وطنهم.
الدفاع والأمن
المعادلة هنا أعقد. تركيا تؤكد أن الأجنحة المسلحة للفصائل الكردية تهديد مباشر لأمنها القومي. دمشق توافق، لكنها تفضل دمج جزء من المقاتلين في الجيش الوطني، فيما أنقرة تصر على نزع السلاح الكامل. compromise يجري بحثه: تشكيل كتائب مختلطة تتبع وزارة الدفاع السورية، لكن بتدريب وفق البرامج التركية. هذا ليس مجرد إشارة رمزية، بل انتقال عملي لخبرة أنقرة في مواجهة حرب العصابات في البيئات الحضرية.
الخدمات الإنسانية واللوجستية
منذ زلزال 2023، لعبت تركيا دور الشريان الأساسي لإدخال المساعدات إلى الشمال السوري. اليوم يُبنى على ذلك لتغطية ملفات أوسع: توفير أدوية، تجهيز مستشفيات، دعم المدارس. الهلال الأحمر التركي، بالتعاون مع وزارات سورية، يطلق برامج تربط بين الإغاثة وإعادة البناء الاجتماعي.
بنية «الدولة الوحدوية غير المتناظرة»
أحمد الشرع يواجه مفترق طرق: إما الحفاظ على وهم اللامركزية أو بناء دولة موحدة بقبضة صلبة. ما يتشكل عملياً هو خيار ثالث: «الوحدوية غير المتناظرة». النموذج يقوم على:
- سيطرة المركز على الجيش، السياسة الخارجية، والمالية.
- منح الأقاليم صلاحيات محدودة في الشرطة والتعليم والخدمات.
- تخصيص حصص تمثيل للأقليات الرئيسية (الدروز، العلويون، المسيحيون) في البرلمان والحكومة.
- حظر أي تشكيل مسلح خارج الجيش والشرطة، مع دمج أو حل جميع القوى الموازية.
هذه ليست فيدرالية ولا لامركزية بالمعنى الغربي، بل بنية هجينة تقلل احتمالات الانفصال، وتمنح في الوقت نفسه شعوراً شكلياً بالمشاركة في العملية السياسية.
خطة زمنية من 12 إلى 18 شهراً
لكي تعمل هذه البنية الجديدة، يحتاج أحمد الشرع وفريقه إلى تقويم واضح بخطوات محددة:
- أكتوبر 2025 – الانتخابات البرلمانية، لإضفاء إطار سياسي للنظام الجديد.
- نوفمبر – ديسمبر 2025 – الحزمة الطاقية: بدء إمدادات الغاز وربط أولى المحطات.
- يناير 2026 – البنية التحتية: افتتاح مقطع حلب–غازي عنتاب وتشغيل رحلات SunExpress مجدداً.
- ربيع 2026 – الأمن: انطلاق عملية دمج الفصائل الكردية في البنى الوطنية تحت إشراف تركي.
- صيف 2026 – القطاع الاجتماعي: إطلاق برنامج إعادة تأهيل المدارس والمستشفيات بدعم من الصناديق التركية والأذربيجانية.
- خريف 2026 – الدستور الجديد: إعلان «الدولة الوحدوية غير المتناظرة» مع حصص مضمونة وصلاحيات محدودة للأقاليم.
مؤشرات الأداء لولادة الدولة الجديدة
نجاح هذا المسار يمكن قياسه بأرقام ملموسة:
- الطاقة: توفير 12 ساعة كهرباء يومياً على الأقل في المدن المتصلة بالمصادر الجديدة.
- الاقتصاد: رفع حجم التبادل التجاري مع تركيا إلى ما لا يقل عن ملياري دولار سنوياً.
- التعليم: إعادة 500 ألف طفل إلى مقاعد الدراسة في أول عام دراسي.
- الأمن: إنهاء وجود أي تشكيل مسلح خارج الجيش والشرطة بنهاية 2026.
- السياسة: الحفاظ على ائتلاف برلماني مستقر من دون انفجارات إثنية كبرى خلال أول عامين.
كيف يتجنب الشرع تكرار أمراض الماضي؟
الخطر الأكبر على سوريا الجديدة هو عودة «ديكتاتورية العائلة» على نهج الأسد. ولمنع ذلك، على الشرع أن يوازن بين مركزية صارمة وشمولية مدروسة. تركيا هنا بمثابة الضامن، فهي لا تريد لسوريا أن تتحول إلى نسخة من العراق أو لبنان.
مفتاح قوة الشرع هو قدرته على التفاوض من دون فقدان ماء الوجه. أثبت أنه يستطيع الجلوس مع تركيا، والولايات المتحدة، وحتى إسرائيل، مع الحفاظ على هامش مناورة. إن نجح في تحويل المركزية القسرية إلى دولة عقلانية، سيكون ذلك أول تجربة منذ عقود تنقل سوريا من منطق التدمير إلى منطق البناء.
اليوم تشبه سوريا وعاءً اختلطت فيه دماء الماضي وجراح الحاضر وبذور المستقبل. أحمد الشرع في موقع الجراح الذي ورث جسداً مقطعاً لكنه ما زال ينبض. مهمته ليست فقط إغلاق الجروح، بل إعادة التنفس إلى الجسد.
لا تزال أصوات الحرب تتردد في الداخل: انفجارات عنف، تناقضات إثنية، تعب سياسي. لكن في الوقت ذاته تلوح ملامح دولة جديدة: برلمان منتخب ولو بطريقة غير مباشرة، مشاريع مشتركة مع تركيا، محطات غاز تعيد الكهرباء، طرق تعيد ربط حلب بغازي عنتاب، ومدارس تستقبل الأطفال من جديد. كل ذلك يبدو هشاً، لكن في هذه الهشاشة تكمن بذرة الأمل.
تركيا التي صارت الشريك الأهم، تقوم بدور المرساة والضامن – ليس فقط في الأمن، بل أيضاً في الاقتصاد واللوجستيات والإنسانيات. المفارقة أن أنقرة ودمشق كانتا على طرفي جبهة في العقد الماضي، واليوم يمكن لأنقرة أن تكون السند الذي يمنع سوريا من السقوط في الهاوية.
أما المسألة الكردية فتبقى الأكثر تعقيداً. قوات سوريا الديمقراطية والهياكل المرتبطة بها قد تكون إما صاعقاً لحرب جديدة أو لبنة في بناء سوريا الجديدة. نجاح دمجها من دون الانزلاق إلى نزعات انفصالية سيحدد مصير المشروع كله. الشرع يراهن على «الوحدوية غير المتناظرة» – صيغة لا هي فيدرالية غربية ولا استبداد شرقي، بل محاولة لإيجاد معادلة سورية خالصة للمستقبل.
المخاطر هائلة: إسرائيل المستعدة للتدخل في أي لحظة؛ الولايات المتحدة بسياساتها المتقلبة؛ إيران التي لا تريد خسارة أوراقها؛ وروسيا التي تناور بين النفوذ القديم والتفاهمات الجديدة. لكن وسط هذه العاصفة يبرز أيضاً احتمال.
إذا استطاعت سوريا تحويل البقاء القسري إلى استراتيجية تنمية؛ إذا شكلت انتخابات الخامس من أكتوبر بداية لمسار شرعي؛ إذا انطلقت مشاريع الطاقة والنقل؛ إذا عاد الأطفال إلى المدارس وأصبحت الدولة وحدها صاحبة السلاح، فستخرج البلاد لأول مرة منذ عقود من الحلقة المفرغة.
سوريا اليوم عند مفترق طرق: طريق يقود إلى الفوضى، وآخر إلى واقع جديد حيث الدولة لم تعد ملعباً للآخرين. هنا تبرز شخصية أحمد الشرع: براغماتيته، بروده في الحسابات، واستعداده للمفاوضة والصرامة معاً قد تجعله مهندس سوريا الجديدة.
في النهاية، التاريخ نادراً ما يمنح فرصة ثانية. ولسوريا، الفرصة جاءت الآن. السؤال فقط: هل يحول الشرع هذا الحاضر الهش إلى مستقبل صلب؟