...

ما الذي يريده النظام في طهران بعد أن تخلّت الولايات المتحدة وإسرائيل عن سياسة “الردع المتبادل”، وهل يستطيع الإيرانيون الحفاظ على مكانتهم كقوة إقليمية في زمن الإنهاك الاستراتيجي وإعادة تقسيم النفوذ العالمي؟

إيران، تلك الحضارة القديمة التي عاشت آلاف السنين، تحولت في شكلها الحديث إلى نتاج صدام بين نموذجين متناقضين: النموذج الصناعي الغربي والهوية الثورية الإسلامية. منذ عام 1979، بنى النظام الإيراني ذاته على قاعدة النفي: العداء لأمريكا وإسرائيل وملوك الخليج لم يكن مجرد خطاب أيديولوجي، بل وسيلة للبقاء والتماسك الداخلي.

أما الغرب، فاختار أن يُبقي إيران في “المنطقة الرمادية” بين الشرعية الدولية والعقوبات الاقتصادية. أولى العقوبات الأمريكية في عام 1979 تحولت بمرور العقود إلى منظومة حصار هي الأطول عمراً في القرن الحادي والعشرين. خلال نصف قرن، أصبحت العقوبات أداة لإدارة توازنات الطاقة والسياسة في الشرق الأوسط.

من الاتفاق النووي إلى انهيار الثقة

اتفاق 2015 (JCPOA) وُلد كحل وسط، لكنه لم يصمد طويلاً. فقد كسر مبدأ الثقة، وهو أساس أي ضمان دولي. وعندما جاء دونالد ترامب عام 2018، دمّر ما بناه أوباما، فعاد الاقتصاد الإيراني إلى الحصار بعد فترة وجيزة من الانتعاش.

انتهاء صلاحية الاتفاق اليوم لا يعني العودة إلى الوضع السابق، بل الدخول في مرحلة جديدة: مرحلة “إيران ما بعد النووي”، حيث لم يعد الملف النووي قضية تكنولوجية بحتة، بل مسألة وجود للنظام نفسه.

إيران 2025: قوة ضعيفة بخطاب قوي

الاقتصاد الإيراني اليوم يقف على حافة الانهيار. وفق صندوق النقد الدولي، لا يتجاوز نمو الناتج المحلي 0.3%، بينما تتراوح نسبة التضخم بين 37 و43%. عجز الموازنة يتخطى 7% من الناتج، وصادرات النفط انخفضت بـ16%. الريال انهار إلى أدنى مستوى في تاريخه. الكهرباء تعاني من نقص بـ25 ألف ميغاواط، والجفاف يضرب 30 محافظة من أصل 31.

النظام السياسي قائم على ثلاثة أعمدة: ولاية الفقيه، الأجهزة القمعية (الحرس الثوري والبسيج)، وفكرة “المقاومة” في وجه الخارج. ومع انهيار الاقتصاد وفقدان الحلفاء كـ«حزب الله»، يعزز خامنئي القبضة الداخلية.

عسكرياً، تراجعت قدرة إيران. الهجمات الإسرائيلية والأمريكية على منشأتي نطنز وفوردو أرجعت البرنامج النووي سنتين على الأقل. لكن خطاب طهران تغيّر: من “الردع النووي” إلى “المرونة غير المتناظرة” – أي إعادة بناء القوة عبر الصين والحفاظ على “محور المقاومة” (اليمن، سوريا، العراق، لبنان) كورقة ضغط على إسرائيل.

الغرب واستراتيجية الضغط عبر الخوف

حقبة أوباما اعتمدت على “الاحتواء عبر التفاهم”، أما ترامب فيعيد العمل بمبدأ “الضغط عبر الخوف”. خطابه في القاهرة، حين لوّح برفع العقوبات مقابل استسلام إيران، لم يكن عرض سلام، بل فصل من سيناريو ضغط محسوب. واشنطن تتحدث عن الحوار، لكنها تكدّس قواتها في شرق المتوسط والخليج.

إسرائيل، التي استعادت تحالفها الكامل مع أمريكا بعد سنوات الاضطراب (2021–2024)، حصلت على “شيك مفتوح”: أي تلكؤ إيراني يمكن تفسيره كذريعة للضرب.

بهذا، تعود إلى الواجهة عقيدة “فرض السلام بالقوة”. فالعقوبات لم تعد هدفاً بحد ذاتها، بل وسيلة لإحداث صدمة اقتصادية تؤدي إلى تحوّل سياسي في طهران.

الصين: الحامي البعيد لا الشريك القريب

الصين اليوم هي الدولة الوحيدة التي تشتري النفط الإيراني وتحمي طهران من العزلة الكاملة. بعد توقيع اتفاق الشراكة الاستراتيجية لـ25 عاماً عام 2021، أصبح الإيرانيون جزءاً من مشروع “الحزام والطريق”.

لكن بكين ليست جمعية خيرية. بالنسبة للصينيين، إيران مجرد مفتاح لربط طرق التجارة البرية نحو أوروبا، وضمان إمدادات الطاقة بعيداً عن السيطرة البحرية الأمريكية. ومع ذلك، تلعب الصين لعبة دقيقة: تدعم إيران بما يكفي لإبقاءها ورقة ضغط على واشنطن، لا أكثر.

وهنا تكمن المعضلة: اعتماد طهران على الصين تحول إلى فخ استراتيجي. الاقتصاد يتنفس بفضل بكين، لكن لا وجود لأي ضمانة عسكرية. وإذا تعرضت إيران لهجوم أمريكي أو إسرائيلي، فلن تتحرك الصين لإنقاذها. هذا يضيّق هامش مناورة خامنئي ويرفع خطر الانفجار الداخلي.

روسيا: شريك العزلة

على الورق، تبدو العلاقة بين موسكو وطهران وثيقة: صفقات نفط وسلاح وتنسيق في سوريا. لكن في الواقع، هو تحالف الاضطرار. روسيا بعد حرب 2022 فقدت قدرتها على الموازنة بين الشرق والغرب، وتحولت بدورها إلى دولة منبوذة بالعقوبات.

وهكذا ترى إيران في روسيا مرآة لمستقبلها المحتمل: دولة تعتمد على الصين وتفقد استقلال قرارها شيئاً فشيئاً. لذلك، يحاول النظام الإيراني أن يتفادى هذا المصير، لكن أدواته محدودة: خطاب أيديولوجي ودعاية سياسية.

في النهاية، ما يُسمّى بالتحالف الروسي–الإيراني ليس تحالف قوى، بل تحالف عزلات. دولتان تحاولان أن تقنعا العالم – وربما نفسيهما – أنهما ما زالتا لاعبتين في مسرح السياسة العالمية.

الأزمة الداخلية والسيناريوهات المحتملة

اليوم تقف إيران أمام ثلاثية من الأزمات المتشابكة: أيديولوجية واقتصادية وتكنولوجية.

أولاً: الأزمة الأيديولوجية.
جيل العشرينات لم يعد يؤمن بقيم ثورة 1979. الشباب الإيراني يريد التغيير، لكن آلة القمع تمنع تحوّل الاحتجاج إلى إصلاح سياسي.

ثانياً: الأزمة الاقتصادية.
العقوبات حرمت البلاد ليس فقط من العائدات، بل أيضاً من القنوات الشرعية لاستيراد التكنولوجيا. سلاسل الإنتاج تفككت، والاستثمار جفّ.

ثالثاً: الأزمة التكنولوجية.
الضربات الإسرائيلية والأمريكية لم تدمر البنية التحتية فحسب، بل أفرغت إيران من عقولها العلمية: المهندسين، والمراكز البحثية، والمختبرات. ومع انهيار خطوط توريد المعدات من الصين وغياب الوصول إلى المكوّنات الغربية، يبدو واضحاً أن إيران لن تستطيع خلال السنوات الخمس المقبلة إعادة بناء برنامجها النووي كما كان. لكنها قد تخلق “وهم القوة” باستخدام ورقة النووي كأداة لتعبئة الداخل وإعادة إنتاج شرعية النظام.

السيناريوهات المحتملة

السيناريو الأول: زعزعة محسوبة.
واشنطن وتل أبيب تواصلان سياسة الضغط المتدرج دون إسقاط النظام. الهدف هو إنهاك الاقتصاد الإيراني وإجبار خامنئي على العودة إلى طاولة المفاوضات. احتمال هذا المسار يبلغ نحو 50%.

السيناريو الثاني: التصعيد وتغيير النظام.
ضربات عسكرية ضد المنشآت الحساسة تترافق مع هجمات إلكترونية وحصار على موانئ تصدير النفط، ما يفتح الباب أمام انهيار داخلي واسع واحتجاجات شاملة. النتيجة قد تكون مجلساً عسكرياً أو قيادة جماعية بيد الحرس الثوري. احتمال هذا السيناريو 25%.

السيناريو الثالث: الوصاية الصينية.
بكين تزيد دعمها الاقتصادي وتدمج إيران في سلاسل الإنتاج والطاقة ضمن مشروع “الحزام والطريق”. النظام يبقى، لكنه يفقد استقلاليته. الاحتمال 20%.

السيناريو الرابع: الاختراق النووي الجديد.
إيران تعيد سراً تخصيب اليورانيوم وتعرض على الغرب “قدرة دفاعية نووية” تفرض صفقة جديدة بشروطها. احتمال هذا السيناريو لا يتجاوز 5%.

الانعكاسات الجيوسياسية

الأزمة الإيرانية في عام 2025 تجاوزت حدود الإقليم. ما يجري هو اختبار صلابة النظام العالمي في الأمن والتجارة. على السطح يبدو الصراع حول النووي، لكن في العمق هي معركة على الممرات البحرية والتأمين والطاقة والتكنولوجيا.

الممرات البحرية والتأمين.
أي توتر في مضيق هرمز أو باب المندب يرفع فوراً كلفة التأمين ويطيل طرق الشحن ويزيد أسعار النقل. الدول المصدّرة تعيد توجيه صادراتها عبر مسارات أبعد لكنها أكثر أماناً، والمستوردون يبنون مخزونات إضافية ويعقدون عقوداً طويلة الأجل. النتيجة: ارتفاع دائم في كلفة اللوجستيات وصعوبة تراجع الأسعار حتى في فترات الهدوء.

توازنات الطاقة وOPEC+.
العقوبات أو الفوضى في إيران تعني غموضاً في المعروض من النفط الثقيل، ما يخلق منافسة داخل الكارتل على حصص السوق الآسيوية. يتزايد اعتماد الدول على شحنات مختلطة وصفقات غير شفافة، فينخفض وضوح الأسعار وتتعقّد حسابات المصافي.

المستوردون الآسيويون والتكرير.
الصين والهند تمارسان لعبة التوازن بين المكاسب السعرية ومخاطر العقوبات الثانوية. توسعان مصادر التوريد وتطوران مصافيهما لتستوعب أنواع نفط متنوعة. النتيجة: تحوّل هيكلي في الطلب لمصلحة آسيا، ما يمنحها قوة تفاوضية أكبر.

الهشاشة الأوروبية والغاز.
أوروبا تواجه معضلة الغاز أكثر من النفط. أي اضطراب في الخليج يزيد المنافسة مع آسيا على شحنات الغاز المسال ويرفع الأسعار الموسمية. الرد الأوروبي هو بناء آليات شراء جماعي، وتوقيع عقود طويلة، وتوسيع منشآت التخزين والربط، وتسريع برامج الترشيد الصناعي.

إسرائيل ودول الخليج.
مع استمرار المواجهة مع أذرع إيران، تعتمد إسرائيل على الضربات الدقيقة والهجمات السيبرانية، فيما تراهن الممالك الخليجية على توحيد أنظمة الدفاع الجوي والبحري. هذا يقلل احتمالات الحرب الشاملة، لكنه يزيد من الحوادث المتكررة في البحر والفضاء الإلكتروني بتبعات اقتصادية غير محسوبة.

المناطق الرمادية وتجارة الظل.
إضعاف طهران لا يعني الاستقرار. بل قد يفتح الباب أمام ازدهار شبكات التهريب والتمويل غير الرسمي، ما يضغط على الحدود ويهدد البنى التحتية الحيوية من الموانئ إلى شبكات الاتصالات.

التكنولوجيا مقابل الأيديولوجيا.
إدارة ترامب تركّز اليوم على خنق التقنيات بدل الخطاب: منع المكونات الإلكترونية والرقائق والتأمين البحري والتوريد اللوجستي. هذا النهج غير صاخب سياسياً لكنه أكثر فعالية لأنه يغير معادلة المخاطر لدى كل من يتعامل مع إيران.

سباق الانتشار النووي.
إذا انهار إطار التفاوض كلياً، فستطلب دول المنطقة ضمانات نووية خاصة بها، عبر برامج وطنية أو اتفاقات أمنية أو مظلات دفاعية مشتركة. هكذا يتآكل نظام عدم الانتشار تدريجياً، حتى دون انسحاب رسمي من معاهدة حظر الأسلحة النووية.

الفضاء الرقمي والأمن السيبراني.
إيران تستثمر في أدوات الضغط غير التقليدية، خاصة الهجمات الإلكترونية على قطاعات النفط والمال. الخصوم بدورهم يعززون العزل الرقمي وأنظمة المراقبة وحماية البيانات، ما يزيد الكلفة ويقلل احتمال الانهيارات المتسلسلة.

القانون والعقوبات والمنافذ الإنسانية.
توسع العقوبات الثانوية دون إطار قانوني واضح يزيد الفوضى في التجارة والتأمين. لذلك يصبح من الضروري إنشاء قنوات إنسانية منظمة للدواء والغذاء والتعليم لتقليل الفوضى الاجتماعية ومنع قيام شبكات مالية موازية.

الأزمة الإيرانية لم تعد مسألة شعارات أو رموز دينية، بل معركة مع هندسة الواقع الحديث: سلاسل الإمداد، منظومات الطاقة، القوانين، والمرونة الرقمية. من سيتعامل مع الملف الإيراني بعقل إدارة المخاطر سيحدد شكل الأمن العالمي المقبل. أما من يراه مجرد مواجهة أيديولوجية فسيبقى رهينة الفوضى والصدف ومؤشرات النفط المتقلبة.

التوصيات الاستراتيجية

إيران اليوم ليست مجرد لاعب إقليمي بطموح نووي، بل متغير أساسي في معادلة النظام العالمي الجديد. لذلك يجب أن تبنى السياسات تجاهها على إدارة المخاطر لا على لغة الردع التقليدية.

بالنسبة للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
يجب التخلي عن نموذج “الضغط من أجل التفاوض”، واستبداله بـ“ممر الشفافية النووية” — نظام دائم للمراقبة والتفتيش ضمن هيكلية الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بعيداً عن الازدواجية السياسية. الشفافية هنا ليست عقوبة، بل وسيلة لبناء الثقة. الرقابة على البرنامج النووي يجب أن تنفصل عن التجاذبات السياسية. الوكالة ليست منصة دبلوماسية بل مؤسسة أمن عالمي.

بالنسبة للصين.
على بكين أن تلتزم “الحياد النشط” — المشاركة في الحلول لا في النزاعات. فإيران عنصر أساسي في مشروع “الحزام والطريق”، لكن تحويل هذا الارتباط إلى تحالف عسكري يهدد توازن أوراسيا ذاته. الأفضل للصين أن تبقى مهندساً للبنية الاقتصادية لا شريكاً في الحروب القديمة.

بالنسبة لأذربيجان وتركيا

اليوم ترى باكو وأنقرة في إيران ليس فقط عامل قلق وعدم استقرار، بل شريكاً محتملاً لا غنى عنه لبناء منظومة أمن إقليمي متوازنة. بعد سنوات من التوتر، تتجه العاصمتان نحو براغماتية واضحة تقوم على المصالح المتبادلة في مجالات البنية التحتية والتجارة والطاقة.

بالنسبة لأذربيجان، الهدف الاستراتيجي ليس عزل طهران بل تحقيق توازن المصالح. فإيران تمتلك إمكانات هائلة في العبور والصناعة، ونفاذاً مباشراً إلى الخليج والممرات البرية المؤدية إلى جنوب آسيا. التعاون في تطوير ممرات النقل، وخاصة ضمن مشروعي “الشمال–الجنوب” و“الشرق–الغرب”، يمكن أن يحوّل الجغرافيا من ساحة تنافس إلى فضاء تكامل ومنافع متبادلة.

أما تركيا، فتؤدي دور الوسيط والحلقة التي تربط بين الاقتصادات. قدرتها على دمج الاقتصاد الإيراني في شبكات أوراسيا تمنحها موقعاً محورياً. تعميق الحوار الطاقي بين أنقرة وباكو وطهران، وربط شبكات الغاز والنفط، وإنشاء مناطق صناعية ولوجستية مشتركة، كلها خطوات تفتح الباب أمام إزالة الحواجز السياسية تدريجياً.

في هذا السياق، يصبح البراغماتية نوعاً جديداً من الدبلوماسية. فوسط عاصفة العقوبات واضطراب الجغرافيا السياسية، تمثل المصالح المشتركة وسيلة للوصول إلى الاستقرار. تطبيع العلاقات بين أذربيجان وإيران يمكن أن يشكّل نموذجاً لتعاون يقوم على الاحترام المتبادل للسيادة والمصالح.

بالنسبة لباكو، هذه ليست تسوية بل حساب عقلاني: الشراكة المستقرة مع إيران تخفف المخاطر في الجنوب، وتعزز مكانة أذربيجان كمركز إقليمي مستقل، وتتيح لها تركيز مواردها على تحديث البنى التحتية الرقمية واللوجستية.

وهكذا، فإن الاستراتيجية الجديدة لأذربيجان وتركيا لا تستبعد إيران بل تسعى لدمجها في شبكة المصالح المشتركة. قوة المنطقة اليوم لا تُقاس بحدودها، بل بعمق تكاملها. وكلما زاد هذا التكامل، ازداد استقرار مستقبل أوراسيا بأكملها.

بالنسبة لإيران

طهران وصلت إلى نقطة اللاعودة، حيث لم تعد الأيديولوجيا تنقذها بل أصبحت عبئاً عليها. إن لم تُعد هيكلة نموذجها السياسي وتتحول إلى اقتصاد عقلاني تقني، فإن البقاء نفسه سيكون مهدداً. الخيار الوحيد الواقعي هو إعادة الاندماج في النظام الدولي، عبر التخلي عن العقائد التوسعية، واعتماد شفافية في التجارة، وإعادة التواصل مع المؤسسات العالمية. يجب على إيران أن تعود جسراً بين الحضارات، لا جداراً يفصل بينها.

بالنسبة للمؤسسات الدولية

العالم بحاجة إلى مفهوم جديد لما يمكن تسميته بـ“قانون العقوبات”. العقوبات في شكلها الحالي كثيراً ما تفقد معناها، فتتحول من وسيلة ضغط إلى أداة تدمير للروابط الإنسانية. المطلوب إطار قانوني واضح يميز بين الإكراه الاقتصادي والتداعيات الإنسانية، بحيث لا تكون الغذاء والدواء والتعليم رهائن الصراعات السياسية. إنشاء “مدونة العقوبات” تحت إشراف الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية سيكون خطوة نحو أخلاقية جديدة في العلاقات الدولية.

إيران 2025: بين التاريخ والبقاء

إيران اليوم ليست ظل قوة نووية، بل دولة عالقة بين ماضيها الثوري ومستقبلها المجهول. مصيرها يشكل اختباراً للعصر الجديد، حيث القوة لم تعد تُقاس بعدد الرؤوس النووية، بل بعدد الشرائح الإلكترونية، وحيث مكانة الدول تحددها جودة بنيتها التحتية وسرعة الإنترنت واستقرار منظومتها الطاقية.

الجمهورية الإسلامية، التي تتأرجح بين حلم “شرق عادل” وخوف من التحديث العالمي، تقف أمام خيار حضاري مصيري. إنه ليس خياراً دينياً أو أيديولوجياً، بل خيار تكنولوجي. فإذا استمر النظام في رؤية المستقبل بعين الدفاع لا الإبداع، فستتحول إيران إلى متحف لثوراتها الماضية: جميل، مهيب، لكنه بلا حياة.

وفي المقابل، تنبثق في المنطقة قوى جديدة تتبنى البراغماتية بذكاء — تركيا، أذربيجان، السعودية، والإمارات — دول أدركت أن النفط في القرن الحادي والعشرين لم يعد أداة نفوذ، بل رأسمال للاستثمار في المعرفة. هي تبني منظومات رقمية، وطاقة خضراء، وبرامج فضائية، ومشاريع في الذكاء الاصطناعي.

أما إيران، بما تملكه من عقول وموارد وثقافة علمية، فلا تزال تستهلك طاقتها في إثبات تحديها للعالم بدل أن تشارك في بنائه.

مصير طهران اليوم هو مرآة مصير الشرق الأوسط كله. من يفهم أن معركة المستقبل تُحسم في المختبرات ومراكز الابتكار لا في ساحات القتال، سيكون مركز القوة الجديد. أما البقية، فسيُذكرون فقط في كتب التاريخ كمن دافعوا عن الماضي، بينما المستقبل كان قد بدأ بالفعل.

الوسوم: