دخل الاتحاد الأوروبي العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين وسط تحوّل بنيوي عميق. فبعد عقودٍ من هيمنة التوافق الليبرالي وتعمّق مسار التكامل القاري، يجد الأوروبيون أنفسهم أمام ظاهرةٍ قادرةٍ لا على تغيير موازين السياسة فقط، بل على إعادة كتابة الحمض النووي للمشروع الأوروبي ذاته. صعود التيارات اليمينية المتطرفة – من فرنسا وألمانيا إلى هولندا وإيطاليا – لم يعد ظاهرة هامشية. بل باتت هذه القوى على أعتاب الوصول إلى مواقع حكمٍ قد تُمكّنها خلال سنواتٍ قليلة من السيطرة على اقتصادات تمثّل أكثر من نصف الناتج القومي لأوروبا.
السؤال الجوهري: هل صعود اليمين المتطرف مجرّد ردّة فعلٍ مؤقتة على أزمات العقد الأخير – الهجرة، الطاقة، الاقتصاد – أم أنّه إيذانٌ ببداية تحوّلٍ عميق يعيد تشكيل جوهر المشروع الأوروبي وموقعه في النظام الدولي؟
الجواب على هذا السؤال لا يخصّ الباحثين وحدهم. فنتائجه تمسّ مباشرةً خريطة التجارة العالمية، وهندسة الأمن الأوروبي، وآليات المؤسسات الدولية، واستراتيجيات اللاعبين الخارجيين – من الولايات المتحدة والصين إلى تركيا وأذربيجان.
البعد الاقتصادي: من الأرثوذكسية النيوليبرالية إلى القومية الحمائية
1. تباطؤ النمو وانهيار النموذج القديم.
الخلفية الاقتصادية للتحوّل السياسي الأوروبي لا تقل أهمية عن أبعاده الأيديولوجية. فمنذ العقد الثاني من القرن الحالي، يشهد الاتحاد الأوروبي تباطؤاً واضحاً في النمو: إذ لم يتجاوز متوسط النمو خلال الأعوام الخمسة الماضية 1.2% سنوياً، وسجّل في عام 2024 نسبة 1% فقط. أما توقعات المفوضية الأوروبية فتشير إلى 1.1% في 2025، و1.5% كحد أقصى في 2026.
هذا الأداء الباهت ناتج عن تداخل عدة عوامل:
- أزمات الطاقة الناتجة عن تراجع الإمدادات الروسية، ما ضاعف الاعتماد على مصادر باهظة وأشعل تضخماً تراوح بين 8 و10% في 2022 و2023.
- السياسة النقدية المتشددة للبنك المركزي الأوروبي (مع رفع الفائدة إلى 4.5%)، وهو ما كبّد الاستثمارات كلفة مرتفعة وأبطأ الإقراض.
- شيخوخة السكان وهجرة الكفاءات (أكثر من نصف مليون غادروا اليونان منذ 2009) خلقت نقصاً حاداً في اليد العاملة، خصوصاً في المهن المتوسطة والمنخفضة المهارة.
- تزايد الفجوة بين "نواة" الاتحاد و"هامشه": فبينما تجاوز نمو بولندا ورومانيا 3% في 2024، بالكاد بلغت ألمانيا 0.2%.
ضمن هذا المناخ، فقدت الوصفة الاقتصادية التقليدية لليمين – التحرير الاقتصادي، الحوافز الضريبية، الخصخصة – جاذبيتها. لتحل محلها عقيدة أكثر حدة تمزج بين شعارات مناهضة للهجرة ومطالبة بالسيادة الاقتصادية، تتبنى الحمائية والدعم المباشر والسياسات المالية الشعبوية.
2. تحوّل في المفهوم: يمينٌ بلا ليبرالية.
لطالما ارتبط اليمين الغربي بالاقتصاد الحر والدولة المحدودة والسوق المفتوحة. لكن الجيل الجديد من اليمين الأوروبي يطرح نموذجاً مغايراً، يتبنّى تدخلاً حكومياً واسعاً مغطّى بخطاب قومي.
الأمثلة عديدة:
- فرنسا: مارين لوبان وجوردان بارديلّا يدعوان لإلزام المطاعم باستخدام 80% من المنتجات المحلية، وتقديم إعفاءات ضريبية للعائلات "الأصلية"، وتعليق ضريبة القيمة المضافة على السلع الأساسية.
- ألمانيا: حزب "البديل من أجل ألمانيا" يطالب بإلغاء ضرائب الكربون والعقارات، مقابل رفع ضريبة الدخل – أي تعزيز دور الدولة لا تقليصه.
- بريطانيا: نايجل فاراج يتعهد بخفض ضريبة الشركات من 25% إلى 15%، وإلغاء ضريبة الكهرباء، دون توضيحٍ لكيفية تعويض العجز المالي الناتج.
هذه السياسات تنذر بتفاقم العجز في الموازنات، الذي يتجاوز بالفعل 3% من الناتج المحلي في معظم دول الاتحاد: 4.4% في إيطاليا، 5.2% في فرنسا، 4.1% في إسبانيا.
تحذيرات صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي تشير إلى أنّ استمرار هذا النهج قد يرفع دين منطقة اليورو إلى 110% من الناتج المحلي بحلول 2030. ومع ازدياد الإنفاق الدفاعي (حتى 2.5% من الناتج وفق التزامات الناتو) وشيخوخة السكان، قد تعود شبح أزمة الديون الأوروبية مجدداً.
3. التجربة الإيطالية: براغماتيةٌ تكبح الشعبوية.
في هذا السياق، تبدو تجربة إيطاليا مثيرة للاهتمام. فالمتوقّع من رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني – التي جاءت بخطابٍ قوميٍّ صارم – أن تنتهج سياسة تصادمية، لكنها اختارت براغماتية محسوبة. تحافظ حكومتها على الانضباط المالي وتسعى لتقليص العجز رغم الدين العام الضخم (137% من الناتج)، متجاهلة ضغوط النقابات والشارع.
تجربة ميلوني تثبت أن اليمين قادرٌ على الالتزام بالعقلانية المالية، لكنها تذكّر أيضاً بثمن هذا الخيار: احتجاجات متكررة، تآكل الشعبية، وضيق مساحة المناورة في السياسة الدفاعية.
الهيكل الاقتصادي لأوروبا تحت الضغط: من الأزمة الداخلية إلى التحوّل العالمي
1. الإنهاك البنيوي للنموذج الأوروبي.
تراجع النمو في أوروبا لم يعد مجرّد عثرةٍ عابرة، بل أصبح علامة على تعبٍ هيكلي تراكم عبر عقود. النموذج القائم على فكرة "الاقتصاد الاجتماعي للسوق" والتكامل العميق بين الدول الأعضاء بدأ يفقد قدرته على امتصاص الصدمات الداخلية والخارجية.
بين عامي 2000 و2020 بلغ متوسط النمو السنوي في منطقة اليورو نحو 1.4% فقط، مقابل 2.1% في الولايات المتحدة و3.5% في كوريا الجنوبية. بعد الجائحة، ازداد الفارق وضوحاً: ففي عام 2023 نما الاقتصاد الأمريكي بنسبة 2.5%، بينما لم يتجاوز اقتصاد منطقة اليورو 0.5%.
أسباب هذا التراجع متجذّرة في بنية الاقتصاد الأوروبي نفسه:
- الانكماش الديمغرافي: معدل الخصوبة في الاتحاد الأوروبي انخفض إلى 1.46 طفل لكل امرأة، أي أقل بكثير من مستوى الإحلال البالغ 2.1. وبحلول عام 2050 سيهبط عدد السكان في سنّ العمل بنسبة 16%، ما سيخلق عجزاً مزمناً في اليد العاملة.
- ركود الإنتاجية: من 2010 إلى 2023 لم يتجاوز نمو الإنتاجية في منطقة اليورو 0.7% سنوياً، مقابل 1.4% في الولايات المتحدة.
- ضعف الاستثمار في التكنولوجيا والبنية التحتية: لا تتجاوز نفقات البحث والتطوير في الاتحاد الأوروبي 2.2% من الناتج، مقارنة بـ3.5% في أمريكا و4.9% في كوريا الجنوبية.
- الجمود البيروقراطي: آليات اتخاذ القرار المعقّدة والقيود على صلاحيات المفوضية الأوروبية تبطئ الإصلاحات. مرّ عام على تقرير ماريو دراغي الإصلاحي دون تنفيذ أي بندٍ جوهري منه.
هذه العوامل مجتمعة تضعف تنافسية القارة. في عام 2000 كان الاتحاد يمثل نحو ربع الاقتصاد العالمي، أما اليوم فحصته أقل من 15%. الصين تجاوزته في الناتج الإجمالي عام 2021، والهند في طريقها للحاق به قبل 2030.
2. صدمة الطاقة والخريطة الصناعية الجديدة.
أزمة الطاقة بين عامي 2022 و2023 كانت نقطة تحوّل حاسمة. فقد تراجع استيراد الغاز الروسي من 155 مليار متر مكعب في 2021 إلى 45 ملياراً فقط في 2023، ما أدى إلى قفزةٍ بأسعار الطاقة تجاوزت أربعة أضعاف.
القطاعات الكثيفة الاستهلاك للطاقة – كالحديد والصلب والكيماويات والأسمدة والزجاج – كانت الضحية الأولى. خلال عامين فقط فقدت أوروبا 17% من طاقتها الإنتاجية في الألمنيوم و10% في الكيماويات، وتوقّف نحو خمس مصانع الأسمدة مؤقتاً عن العمل.
التحوّل الصناعي أصبح واقعاً لا تهديداً. ألمانيا وحدها خسرت نحو 12% من إنتاجها الصناعي بين 2022 و2024، وتراجعت مساهمة الصناعة في ناتجها المحلي من 26% إلى 22%.
في المقابل، كثّفت الولايات المتحدة الضغط عبر قانون "خفض التضخم" الصادر عام 2022 بحزمة دعمٍ تفوق 370 مليار دولار لتعزيز الطاقة الخضراء والصناعات المتقدمة. النتيجة: شركات كبرى مثل Northvolt وBASF نقلت بعض مشاريعها عبر الأطلسي.
أما الاتحاد الأوروبي فحاول الرد عبر خطة Net Zero Industry Act، إلا أن حجم الدعم فيها لا يتعدى ثلث نظيره الأمريكي، كما أنّه موزّعٌ بين الدول الأعضاء بطريقة تُعمّق الفجوات بين اقتصادات المركز (ألمانيا وفرنسا) والطرف (إسبانيا وشرق أوروبا).
3. الصدمة الجمركية: عودة واشنطن إلى سياسة الحمائية.
فوق كل ذلك، جاء الضغط الخارجي من واشنطن مع عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى سياسة الحماية التجارية. فمنذ يناير 2025 بدأت إدارته مراجعة الاتفاقات التجارية وفرض رسومٍ جديدة.
وفي مايو من العام نفسه أعلن البيت الأبيض نيّته فرض ضريبة جمركية بنسبة 35% على السيارات القادمة من الاتحاد الأوروبي بحجة "الدعم غير العادل" للمصنّعين الأوروبيين. التقديرات تشير إلى خسائر قد تصل إلى 42 مليار يورو سنوياً للاتحاد.
ترامب طرح أيضاً فكرة اتفاقات ثنائية مع دولٍ أوروبية بعينها، متجاوزاً بروكسل، ما يعمّق النزعات الانفصالية داخل الكتلة.
المفوضية الأوروبية تجهّز لردٍّ بالمثل، عبر رسومٍ تصل إلى 25% على المنتجات الزراعية الأمريكية وإعادة النظر في عقود الدفاع. لكن هامش المناورة محدود، إذ تجاوز حجم التجارة بين الجانبين 900 مليار دولار في 2024، وأي حربٍ تجارية مفتوحة ستصيب المصدرين الأوروبيين أولاً.
4. التضخّم وحدود المالية العامة.
برامج اليمين المتطرف الداعية لتوسيع تدخل الدولة – من دعم السلع الأساسية إلى الإعفاءات الضريبية للأهالي المحليين – تصطدم بجدار الواقع المالي.
إجمالي الدين في منطقة اليورو يبلغ 91.2% من الناتج، وفي فرنسا 112%، وفي إيطاليا 137%. عجز الموازنات يواصل الاتساع: 5.2% في فرنسا، 4.1% في إسبانيا، 4.7% في بلجيكا.
ووفق تقديرات البنك المركزي الأوروبي، كل زيادةٍ بمقدار نقطة مئوية في العجز ترفع كلفة خدمة الدين بنحو 0.3% من الناتج سنوياً.
الحيّز المالي للإنفاق الجديد محدود، ومع اقتراب 2030 ستواجه القارة ارتفاعاً في تكاليف التقاعد والرعاية الصحية بما يعادل 1.5 إلى 2% من الناتج سنوياً. وإذا اندلعت "حرب دعمٍ وضريبة"، فقد تعود أزمة الديون التي هزّت أوروبا في العقد الماضي، لكن على نطاقٍ أوسع.
5. سيناريوهات المسار الاقتصادي لأوروبا (2025–2035).
- السيناريو الأول: التكيّف المحافظ.
يتفادى الاتحاد الأوروبي وصول اليمين المتطرف إلى الحكم في الدول الكبرى، ويتجه نحو إصلاحات تدريجية تشمل حوافز ضريبية معتدلة، واستثمارات في السيادة التكنولوجية وتنويع الطاقة. بحلول 2030 يستقر النمو بين 1.6 و1.8%، وتبقى أوروبا منفتحة على التجارة العالمية. - السيناريو الثاني: القومية المالية.
يتولى اليمين المتطرف السلطة في ألمانيا وفرنسا، ويطلق سياسات دعمٍ للمصنّعين المحليين مع تقييد الهجرة. النمو يتراجع إلى 0.8–1.2%، العجز يتجاوز 5%، والاستثمار يتقلّص بفعل الضبابية السياسية. - السيناريو الثالث: التفكّك والدوامة الجمركية.
يتحوّل الاتحاد إلى كتلٍ اقتصادية متنافرة، وتتصاعد الحروب التجارية مع واشنطن وبكين، ما يضعف السوق الموحدة ويخفض النمو إلى ما دون 0.5%. يفقد اليورو مكانته كعملة احتياطية ثانية، وتنحدر حصة أوروبا من الاقتصاد العالمي إلى 11–12%.
التحوّل السياسي والمؤسسي: السيادة في مواجهة التكامل
1. اليمين المتطرف وأزمة البنية المؤسسية للاتحاد الأوروبي.
تأسس الاتحاد على مبدأ نقل السيادة تدريجياً من الدول الوطنية إلى مؤسساتٍ فوق قومية – المفوضية الأوروبية، البرلمان الأوروبي، ومحكمة العدل. هذا الإطار، الذي بدأ مع معاهدات روما عام 1957، منح القارة عقوداً من الاستقرار والنمو.
لكن التحدي الجديد مختلف عمّا واجهه الاتحاد حتى في أزمتي الديون و"البريكست". الأحزاب اليمينية المتطرفة – من "التجمّع الوطني" في فرنسا و"البديل لألمانيا" إلى "الرابطة" الإيطالية و"فيدس" المجرية – لا تكتفي بانتقاد بيروقراطية بروكسل، بل تضرب في عمق الفكرة ذاتها: شرعية السيادة فوق القومية.
هذه التيارات تدعو إلى "استعادة الصلاحيات" وإعطاء الأولوية للقانون الوطني على حساب التشريعات الأوروبية. وما كان نقاشاً نظرياً صار واقعاً: في 2021 أعلن القضاء الدستوري البولندي تفوّق الدستور الوطني على قانون الاتحاد، وفي 2023 نوقش الأمر نفسه في بودابست.
إذا تبنّت الاقتصادات الكبرى – ألمانيا، فرنسا، إيطاليا – المنطق ذاته، فإن البنية القانونية والسياسية للاتحاد الأوروبي ستبدأ بالتفكك من الداخل.
الشلل المؤسسي والنزعات الانفصالية.
يجرّ صعود اليمين المتطرف وراءه لا تبدلاتٍ أيديولوجية فحسب، بل شللاً في آليات الحكم الأوروبية. فآلية اتخاذ القرار داخل الاتحاد قائمة على التوافق والاعتراف المتبادل. وحين تجلس على طاولة مجلس الوزراء أو المجلس الأوروبي حكوماتٌ ترفض السير على الخط المشترك، تصبح «العرقلة» قاعدة لا استثناء. المثال الهولندي فاضح: بعد خروج «حزب الحرية» بزعامة خيرت فيلدرز من الائتلاف عام 2025، عجزت لاهاي عن إقرار رفع الإنفاق الدفاعي إلى سقف الناتو، وأرجأت حزمة الإجراءات المناخية. مشاهد مشابهة تتكرر في إيطاليا والنمسا، حيث يطالب اليمينيون بـ«إعادة كتابة» قانون الهجرة الأوروبي لمصلحة السيطرة الوطنية. هذا الجمود المؤسسي يدفع إلى تفكيك المجال الأوروبي: دولٌ تذهب إلى اتفاقاتٍ ثنائية مع شركاء خارجيين من وراء ظهر بروكسل – صفقات غاز مع قطر أو مشاريع بنى تحتية مع الصين – بما يضرب مبدأ السياسة الخارجية الموحدة في الصميم.
صراع السيادات والتنازع القانوني.
إذا وصل اليمين المتطرف إلى السلطة في الدول المحورية، فستكون ساحة الاشتباك الأولى هي القانون. فبرامج هذه القوى تتضمن مبادراتٍ تصطدم مباشرةً بالمعاهدات المؤسسة للاتحاد: إلغاء أولوية قانون الاتحاد الأوروبي (لوبان، «البديل لألمانيا»). تقييد حرية الحركة داخل فضاء شنغن. قراراتٌ أحادية بترحيل المهاجرين في مخالفةٍ لاتفاقية جنيف لعام 1951. التنصل من الالتزامات المناخية المندرجة تحت «الصفقة الخضراء» الأوروبية. هكذا تنشأ ازدواجية قانونية: نصوص الاتحاد سارية على الورق، لكن الدول الأعضاء تكفّ عن تنفيذها. والضربة الأخطر تطال قلب المشروع: السوق الموحدة والمنظومة القضائية الواحدة. سوابق التاريخ لا تبشّر بالخير. ففي ستينيات القرن الماضي شلّت «سياسة الكرسي الفارغ» الفرنسية مؤسسات الجماعة الأوروبية قرابة عام، وانتهت يومها بتسوية. أما اليوم فشقّ الصف يبدو بنيوياً: إذا ما تجاهلت الدول أحكام محكمة العدل الأوروبية أو توجيهات المفوضية، ينقلب الاتحاد إلى قشرةٍ شكلية بلا أدوات تنفيذ.
الخريطة السياسية: محور جديد داخل أوروبا.
تقدم اليمين المتطرف غير متساوٍ، لكنه يعيد رسم هندسة السياسة القارية. يمكن تمييز ثلاثة «محاور» في البنية الراهنة: محور السيادة الوطنية المحافظة: بولندا، المجر، إيطاليا، وإلى حدٍّ ما النمسا وسلوفاكيا – دولٌ تدفع باتجاه تقليص السلطة فوق القومية وتقديم «المصلحة الوطنية». محور نواة الاندماج: ألمانيا، بلجيكا، هولندا، والدول الاسكندنافية – معسكر الدفع نحو تعميق الاتحاد سياسياً واقتصادياً. محور المتأرجحين الوسطيين: فرنسا، إسبانيا، التشيك – حيث ستحسم الاستحقاقات الانتخابية المقبلة الاتجاه. وإذا حسم اليمينيون المتطرفون السباق في باريس وبرلين، سيختل التوازن جذرياً: يتصدر المحور السيادي المشهد، فيما تتراجع «نواة الاندماج» إلى أقلية.
سيناريوهات تحوّل المنظومة السياسية والمؤسسية للاتحاد الأوروبي.
السيناريو A — «تباعدٌ مضبوط». يكتسب اليمين المتطرف نفوذاً من دون أن يهدم الاتحاد. تتعاظم أدوار البرلمانات الوطنية، ويعيد الاتحاد هندسة آلياته نحو قدرٍ أكبر من المرونة و«أوروبا بسرعاتٍ متفاوتة». تتواصل مسيرة الاندماج، لكن بصيغةٍ أكثر لا تماثلية.
السيناريو B — «أزمة دستورية». تضع المحاكم والحكومات الوطنية القوانين المحلية فوق الأوروبية على نطاقٍ واسع. تفقد محكمة العدل هيبتها وتضعف أدوات الإنفاذ لدى المفوضية. يبقى الاتحاد قائماً، لكن قراراته تصبح اختيارية، أقرب إلى «رابطة دولٍ ذات سيادة».
السيناريو C — «تفككٌ وانحلال». تتالى القرارات الأحادية، فتعلن دول كبرى مراجعة المعاهدات أو الخروج (فريكست، إيتاليكست). ينقسم الاتحاد إلى تكتلاتٍ إقليمية، ويتراجع موقع اليورو. تتآكل قوة أوروبا الخارجية ويتحوّل ثقل الاقتصاد العالمي نهائياً إلى الفضاءين الهندي والهادئ.
المحيط الجيوسياسي: أوروبا في عالمٍ جديد.
تحوّلٌ في الأولويات الاستراتيجية. إذا دخلت أوروبا مرحلة هيمنة يمينية متطرفة، فلن تكون السياسة الخارجية أقل تبدلاً من الاقتصاد والمؤسسات. سيتراجع خطاب التعددية وحقوق الإنسان وتحرير التجارة، الذي شكّل «بطاقة التعريف» الأوروبية لعقود، لمصلحة مقاربةٍ أكثر قومية ونفعية. أولاً، سيتبدّل المزاج تجاه الولايات المتحدة. دونالد ترامب أعلن مسار إعادة النظر في الترتيبات عبر الأطلسي والضغط بالتعريفات. وعلى خلاف الوسط، يميل اليمين المتطرف إلى الرد بالمثل، بما يهدد بانقسام التحالف عبر الأطلسي حتى داخل الناتو. سترتفع نفقات الدفاع الأوروبية، لكن التنسيق الاستراتيجي سيتداعى. ثانياً، ستتقوّى الصلات مع روسيا والصين، لا حباً أيديولوجياً بل بحساباتٍ براغماتية. «البديل لألمانيا» يدعو إلى إعادة استيراد الغاز الروسي، ومارين لوبان وصفت العقوبات في 2024 بأنها «تدميرٌ ذاتي». هذا يبدّل ديناميات الحرب الأوكرانية ومنظومة العقوبات. ثالثاً، ستتجه أوروبا شرقاً وجنوباً نحو أفريقيا والشرق الأوسط طلباً للعمالة والمواد الأولية. لكن في ظل مزاجٍ يميني سيكون ذلك تعاقداً وظيفياً لا شراكة: اتفاقات لإعادة المهاجرين وصفقات «استثمار مقابل ضبط الحدود».
التداعيات على النظام العالمي.
لن تقف آثار الانعطافة الأوروبية عند حدود القارة. تتفتت التجارة الدولية: تتحول الحروب الجمركية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين إلى سمة بنيوية، وتتقطّع سلاسل التوريد إلى أقاليم متنافسة. تضعف المؤسسات العالمية: تتآكل هيبة منظمة التجارة العالمية ومنظمة التعاون الاقتصادي مع انتقال الكبار إلى الاتفاقات الثنائية والمناطق التفضيلية. تعيد رؤوس الأموال تموضعها: تميل إلى ولاياتٍ قضائية أكثر قابلية للتنبؤ – الولايات المتحدة وآسيا – فيما يخسر الاتحاد الأوروبي جزءاً من الاستثمار الأجنبي المباشر (وقد تراجع تدفقه بالفعل في 2024 بنسبة 23% مقارنةً بـ2021). وعلى أفق 2035 لا يعني ذلك تراجعاً وحسب، بل انتقال أوروبا إلى مرتبةٍ ثانوية في الاقتصاد العالمي: حصة عند 11–12%، وتآكلٌ في مكانة اليورو كعملة احتياط.
خلاصة استراتيجية وتوصيات.
الاتحاد الأوروبي بحاجةٍ إلى تحديثٍ مؤسسي يقيه شلل القرار: توسيع نطاق التصويت بالأغلبية الموصوفة في الملفات الحساسة، وتعزيز دور البرلمان الأوروبي. إعادة معايرة السياسة المالية باتت ضرورة: قواعدٌ جديدة تزاوج الانضباط بالاستثمار في التكنولوجيا والبنية التحتية والدفاع. مواجهة الضغط الجمركي الأمريكي تفترض سياسةً صناعية أكثر هجومية: بناء سلاسل قيمة أوروبية خاصة في القطاعات الاستراتيجية (الرقائق، الهيدروجين، الذكاء الاصطناعي). أما سياسة الهجرة فتلزمها معادلة رصينة: لا عودة إلى الانفتاح الفوضوي، ولا انتحار ديموغرافياً. تحتاج أوروبا إلى 2–3 ملايين عامل سنوياً للحفاظ على ديناميكية اقتصادها. وخارجياً، لا بد من تموضعٍ واقعي مع مراكز القوة الجديدة. الشراكة العملية مع تركيا وأذربيجان ودول آسيا الوسطى مفتاحٌ لمسارات توريد بديلة تقلّص الارتهان لروسيا والصين.
… أوروبا عند مفترق حاسم سيحكم مصيرها لعقودٍ مقبلة. صعود اليمين المتطرف ليس «عاصفة عابرة»، بل عرضٌ لأمراضٍ عميقة: إنهاكٌ اقتصادي، شيخوخةٌ سكانية، جمودٌ مؤسسي، وضغطٌ جيوسياسي متصاعد. السؤال لم يعد إن كان اليمينيون سيصلون إلى السلطة – فذلك شبه محتوم. السؤال الحقيقي: هل ستحوّل المجتمعات الأوروبية هذا التحوّل إلى طاقة تحديث، أم ستتركه ينسف مشروعاً كان سبعين عاماً عنواناً للاندماج والسلام. على هذا الجواب يتوقف ما إذا كانت أوروبا ستبقى أحد أقطاب النظام الدولي، أم ستنكمش إلى تكتلٍ إقليمي يعيش على مجدٍ مضى ولا يملك أن يصنع الغد.