أوروبا تفعل ما يفعله أي كائن بالغ واجه رياح التاريخ: تعمل بهدوء، منهجية، وبما أصبحت أكثر تكراراً — بعجلة تقود إلى حلول منظَّمة. تتبدل مواقف حلف الناتو، تقوم البرلمانات الوطنية بإعادة كتابة قواعد الميزانيات، تعيد شركات الصناعات الدفاعية ترتيب سلاسل الإنتاج، ويتجه مشغلو شبكات الكهرباء في الجناح الشرقي إلى تغليف محطات التحويل بواقي خرسانية وشبكات مضادة للطائرات من دون طيار. لا رومانسيات عسكرية هنا — بل حسابات طويلة للمخاطر تُعامل روسيا كخصم استراتيجي لسنواتٍ قادمة.
ميزانيات الحرب ترتفع.
نقطة التحول هي المعايير المحدثة للإنفاق العسكري. بعد أن باتت قاعدة "2% من الناتج المحلي" غير كافية لعصرٍ جديد، اتفق قادة الناتو في 2025 على إطار ذي مستويين: رفع الإنفاق الدفاعي "الأساسي" إلى نحو 3.5% من الناتج المحلي بحلول منتصف العقد المقبل، وتوسيع الإنفاق ليشمل الدفاع والأمن والبنى التحتية ذات الاستخدام المزدوج والتقنيات الحرجة والمرونة ليصل مجتمعه إلى نحو 5% من الناتج المحلي. جرى صياغة النصوص بين محامين واقتصاديين، لكن الواقع واضح: المستوى ارتفع، والدفع سيكون باهظاً.
البُعد السياسي واضح.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يقول علناً إن أوكرانيا بدعمٍ أوروبي قادرة على استعادة كامل أراضيها، بينما يحوّل رئيس الحكومة البولندي دونالد توسق الاستعارة الدبلوماسية إلى لغة بشرية: خلف التفاؤل المفاجئ قراءة لوعود بتقليص الدور الأمريكي وتحميل أوروبا المسؤولية. "الحقيقة أفضل من الأوهام." بهذه العبارة يختصر موقفه. وفي المنطق الأوروبي هذا يعني شيئاً واحداً: الاعتماد على القدرات الذاتية لم يعد شعارات، بل قاعدةٍ ملزمة.
الاقتصاد الحربي يبدأ من هذه القاعدة.
بروكسل بنَت سياسة صناعية أمنية موحّدة: بعد تبنّي استراتيجية الصناعة الدفاعية الأوروبية في 2024 دخلت 2025 مرحلة التطبيق العملي — مشتريات مشتركة، أولوية لسلاسل التوريد الأوروبية، وتوسيعٌ عدواني لإنتاج القذائف والبارود. الهدف واضح وقاسٍ: بحلول نهاية 2025 بلوغ طاقة إنتاج قادرة على تجاوز وتغطية معدلات الإنفاق الحالية في الجبهات وتكوين مخزون احتياطي. شركة راينميتّال تُنشئ وتوسّع طاقات في ألمانيا ودول البلطيق، وشركة يورينكو تُعيد تشغيل خطوط النتروسيليلوز، والشماليون بعقد مع نامّو يرسّخون اتفاقات إطارية كبرى للذخائر. لم تعد هذه خططاً على الورق، بل عقود ومواقع بناء وورش عمل.
خريطة الدفاع تتبدل.
في المجال الدفاعي تتغير الجغرافيا. ألمانيا لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية تنشر لواءً ثقيلًا دائمًا في ليتوانيا. ومن المقرر أن يصبح هذا اللواء بحلول 2027 جاهزاً قتاليًا بالكامل ويشكّل عمودَ الدفاع الناتو بين ريغا ووارسو. مجموعات متعددة الجنسيات مماثلة متواجدة في ثمانية بلدان على الجناح الشرقي. الفكرة بسيطة: كسب ساعات وأيامٍ في الأسابيع الأولى لأي هجوم افتراضي، إلى أن تتجمع القوى الثقيلة من عمق القارة.
خريطة اليابسة لا ترحم.
ممر سولاوفك (سوفالكي) — «العنق» الضيق بين بيلاروسيا وإقليم كالينينغراد — معرض للخطر سواء في زمن السلم أو في "المنطقة الرمادية". أي قطعٍ لهذا الممر يجعل دول البلطيق تعتمد على الإمداد البحري والجوي. لذلك لم يكن صدفة أن تُكثف حول هذه المنطقة مشاريع حماية البنى التحتية الحيوية: من تدريع محطات التحويل ونقاط الشبكة إلى تخزين طارئ لمحولات نادرة. دروس أوكرانيا تُستوعب حرفياً، والمهندسون الكهربائيون جنباً إلى جنب مع العسكريين يُكتبون معايير جديدة للحماية المادية.
جبهةٌ غير مرئية تحت المياه.
بعد سلسلة تلفيات في خطوط الغاز والألياف البصرية من بحر البلطيق إلى بحر الشمال سيُنشئ الناتو تنسيقاً دائماً لحماية البنية التحتية البحرية تحت الماء: دوريات، حساسات، تبادل معلومات استخبارية وربط خدمات الملاحة المدنية بالإطار العسكري. في عصرٍ صار فيه الكابل تحت البلطيق هدفاً مماثلاً للمطارات، لم يعد هذا غريباً، بل أصبح روتيناً أمنياً يومياً.
المنطقة الرمادية تهيمن أيضاً على السماء.
خريف 2025 شهد سلسلة حوادث: تحرك الحلف لعملية حماية المجال الجوي بعد اختراقات طائراتٍ بدون طيار ورحلات استفزازية قرب الحدود؛ في عدة دول رُصدت طائرات مسيرة "غير محددة" في محيط المطارات. أنظمة الدفاع الجوي أسقطت مسيّرات ورفعت مقاتلات، لكن على المستوى السياسي لم يعد كل حادث يُعامل كقضية معزولة، بل كقانونية متنامية من الضغوط الهجينة.
المسيّرات تعيد تشكيل اقتصاد الدفاع الجوي.
المسيّرات أجبرت على إعادة حسابات الدفاع الجوي. الأمين العام لحلف الناتو مارك روتّيه صرخ بما هو بديهي: لا يمكن إسقاط مئات أو آلاف الطائرات المسيرة الرخيصة بصواريخٍ تكلف مئات الآلاف بل ملايين الدولارات. بسرعةٍ تم تبني خبرات أوكرانيا — اعتراضات رخيصة، "طائرةٌ مضادة للطائرة" مستقلة، رادارات توقع المسار، وأنظمة طاقة موجهة. والاتحاد الأوروبي يناقش «جداراً ضد المسيرات» — ليس خرسانة بل شبكة حساسات، وحرب إلكترونية، واعتراضات على امتداد الحدود الشرقية. هذا ليس تشبيهاً بل واقعٌ هندسي جديد.
الواقع المادي يظهر في المعامل.
راينمتّال تبني وتوسّع خطوط إنتاج قذائف عيار 155 ملم؛ شركة ديهل للدفاع تضاعف إنتاج IRIS-T وتستثمر في توسيع مصانع صواريخ الدفاع الجوي؛ إم بي دي إيه تُنسق تجميع مكونات محلية لصواريخ "أرض-جو" وتزيد الإنتاج بشكلٍ مضاعف مقارنة بعام 2023. بالتوازي يعودُ عنصر "الكيمياء المنسية" — النتروسيليلوز والباردات الدافعة — الضروريان لأي إنتاج بملايين القذائف. ومع العقود تأتي الأرقام: اتفاقات بمليارات مع الشماليين على الذخائر، وبولندا خطوط مُسرِّعة للأسلحة الصغيرة والبراثن، وفرنسا تسلسلات إنتاج طويلة للأساطيل الجوية والبحرية.
الرياضيات البرية يكمّلها البشر.
في الشمال، الصورة واضحة: فنلندا تحافظ على نظام التجنيد الإجباري وتمتلك منظومة تعبئة فورية وواحدًا من أكبر الاحتياطات في أوروبا. السويد ترفع حصص المجندين، والنرويج منذ زمنٍ بعيد تطبّق الخدمة الإلزامية المتساوية بين الجنسين. في أوروبا الوسطى، وسّعت بولندا قوات الدفاع الإقليمي وأنشأت احتياطًا كبيرًا يضم عشرات الكتائب الرقمية الداعمة. دول البلطيق أعادت نظام التجنيد وتبني دفاعًا إقليميًا بوصفه انضباطًا مجتمعيًا. أما ألمانيا، فطرحت في عام 2025 نموذج خدمةٍ هجينة: من استبيانٍ شاملٍ لكل من يبلغ الثامنة عشرة إلى تجنيدٍ انتقائي في التخصصات النادرة. ليست هذه «عسكرة للحياة»، بل تقليصٌ للفاصل بين زمن السلم والتعبئة.
الطب العسكري يعود إلى الواجهة.
موضوع يبدو بسيطًا، لكنه أصبح حاسمًا. الجيش الألماني يخطط لاستقبال ألف جريحٍ يوميًا في حال اندلاع حربٍ كبرى، باستخدام ما يصل إلى خمسة عشر ألف سرير في المستشفيات المدنية، ويعيد تدريب أطقمه وفق إصابات عصر المسيّرات: حروق، شظايا متعددة، وحالات تحتاج تثبيتًا طويلًا قرب الجبهة. عادت القطارات الطبية — لا كذكرى من الماضي، بل كاستجابةٍ لخصمٍ يراقب الطرق بحربٍ إلكترونية واستطلاعٍ دائم. هذا يعكس نضج التخطيط: الفصول التي كانت تُقرأ «على القفز» في زمن السلم، باتت اليوم تُدرّس كواقع.
ظلٌّ نوويّ يخيّم فوق أوروبا.
تمتلك بريطانيا وفرنسا قواهما الاستراتيجية، بينما تنشر الولايات المتحدة قنابلها التكتيكية B61 في قواعد خمس دول. روسيا لا تكتفي بتحديث ثلاثيتها النووية، بل نقلت جزءًا من قدراتها التكتيكية إلى بيلاروسيا. المناورات المشتركة في عام 2025 حول «النووي التكتيكي» ثبّتت واقعًا جديدًا: الجميع يتحدث عن الردع، لكن الجميع يتدرّب على الجاهزية. انخفاض عتبة اتخاذ القرار في الأزمات لا ينبع من مغامرة، بل لأن السلاح النووي التكتيكي أصبح جزءًا من الخطاب اليومي والتخطيط العسكري. الرد الأوروبي واضح: ربط مباشر بين أي تصعيدٍ كبير والمخاطر النووية، وتعزيز الردع الموسّع وتوضيح الإشارات لتقليل احتمالات الانفجار غير المقصود.
بناء هندسة ما قبل الحرب.
على مستوى الدفاع النظامي، تفعل أوروبا ما طالما طالبها به المخططون العسكريون: تبني هندسة ما قبل المعركة. الخطط الإقليمية للناتو، التي أُقرت بعد قمة فيلنيوس، أنهت الغموض الدفاعي — لكل جيشٍ قطاعه، وجسوره، وطرقه، وموانئه، ونقاط اختناقه. بين عامي 2024 و2025 نفّذ الحلف سلسلة من أكبر المناورات منذ الحرب الباردة — ليست عروضًا عسكرية بل تدريباتٍ لوجستية. تحركت الأرتال من البرتغال وألمانيا نحو الشمال والشرق، واختُبرت التحركات عبر عقد السكك والموانئ والمطارات. حول هذه الخطط يتمركز اليوم الجناح الشرقي للناتو بكتائب وألوية كاملة.
هل هذا استعدادٌ لحرب الغد؟
لا. التقييم الواقعي يقول إن روسيا غارقة في أوكرانيا، وفتح «جبهة ثانية» دون فترة لإعادة التسليح والتجنيد أمرٌ صعب. عندما تتحدث عواصم الناتو عن أفق «ما بعد 2029»، فهي لا تحدد موعد حرب، بل تشير إلى نافذة زمنية تتقاطع فيها دورات الاستثمار الدفاعي، وإصلاح المعدات، وتشغيل المصانع الجديدة، وتجهيز الاحتياطيات والألوية وأنظمة الدفاع الجوي. معظم الوثائق العسكرية الأوروبية تُكتب اليوم تحت هذا الأفق بالذات.
الحرب الهجينة أصبحت روتينًا يوميًا.
تخريب البنية التحتية تحت البحر، تحليق المسيّرات فوق المطارات، «انحراف» طائرات الاستطلاع قرب الحدود، تعمية الأقمار الصناعية، والهجمات السيبرانية ضد شركات الطاقة — كلها تشكّل الحرب الرمادية اليومية. أوروبا تردّ عليها بشكلٍ منهجي: تحت الماء — بعثات مراقبةٍ وحمايةٍ دائمة، في الجو — قوات مناوبة وشبكات دفاعٍ جوي مدمجة، على الأرض — «جدارٌ ضد المسيّرات»، وفي الفضاء الرقمي — بروتوكولات جديدة لتبادل البيانات بين المراقبين المدنيين والعسكريين. ليست حملة هجومية، بل منطقة أمانٍ عازلة ترسمها أوروبا مسبقًا حتى لا تبرر لاحقًا سبب احتراق المحطات أو سقوط الإنترنت.
المال هو جوهر المعادلة.
بولندا ترفع إنفاقها الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي وتعدّل قواعدها المالية وفقًا لذلك. ألمانيا تُخفّف قيود «فرامل الدين» وتتحمل كلفة نشر لوائها الطويل في ليتوانيا. بريطانيا تضع خارطة طريقٍ نحو 2.5% من الناتج المحلي بحلول نهاية العقد، مع طموح بلوغ 3% في البرلمان المقبل. فرنسا تُثبّت 413 مليار يورو في برنامج تسليحٍ يمتد حتى عام 2030. هذه ليست أرقامًا دعائية، بل هياكل مالية ستحدد حجم الجيوش وعدد الذخائر وكثافة الدفاع الجوي فوق الموانئ.
جبهة الإمداد الجيوسياسية.
نقص النتروسيليلوز كشف هشاشة أوروبيةٍ مزمنة، فبدأت القارة بإحياء صناعاتها الكيميائية وتحويل خطوط الإنتاج المدنية إلى المعايير العسكرية. اللوجستيات تُعاد هندستها لتخدم متطلبات الحرب. بولندا تستثمر المليارات للاتصال بشبكة أنابيب الناتو حتى يتدفق الوقود للطائرات والأرتال عبر الأنابيب لا الصهاريج. في معادلة الحرب، المنتصر هو من يملك وقودًا وبارودًا كافيًا، وعُقَد إمدادٍ مؤمّنةً ومتصلةً بشبكة واحدة.
النووي في التخطيط اليومي.
مسألة التصعيد النووي تبقى الأخطر، لكنها باتت جزءًا من التخطيط الاستراتيجي. ازداد ذكر السلاح النووي التكتيكي في الخطاب العام، لكنه أيضًا عزز الردع الأوروبي: كلما فهم المجتمع أن الخطر النووي مرتبط بالحرب التقليدية، ارتفعت الكلفة السياسية لأي تصعيد. يعتمد الناتو على قوة الردع النووي لحلفائه ويُبقي على مظلته الأمنية للدول غير النووية.
ما معنى أن أوروبا بدأت الاستعداد لحربٍ كبرى؟
ليس سباق تعبئةٍ نحو المتاريس، بل انضباط مواردٍ يقاس بقدرة أوروبا على أن تُظهر بعد عامين أو ثلاثة مصانعها وألويتها واحتياطها ودفاعها الجوي ونظامها الطبي. لا يضمن هذا السلام، لكنه يرفع كلفة العدوان — وبالتالي يُعزز الردع. في القرن الحادي والعشرين، الردع لا يُقاس بعدد الاستعراضات العسكرية، بل بسماكة الخرسانة فوق المحولات، وبعمق مستودعات الذخيرة، وبسرعة الرادارات التي ترصد وتُسقط المسيّرات الرخيصة، وبالوقت الذي تحتاجه كتيبةٌ ألمانية للوصول إلى كاوناس.
أين تكمن نقاط الضعف؟
في الصناعة الدفاعية التي عاشت عقدين في بيئةٍ سلمية والآن تُطارد نفسها: اختناقات كيميائية، نقص مهندسي الميكانيك، تنافس على المكونات الإلكترونية، وبيروقراطية مشترياتٍ عامة، وإطار قانوني معقد للصادرات. حتى الولايات المتحدة، بقدراتها، تخلّفت عام 2025 عن أهدافها في إنتاج قذائف 155 ملم؛ فما بالك بأوروبا المتعددة الأنظمة والمعايير. لذلك يشتد الضغط السياسي لتسريع الإنتاج، وتُمنح الامتيازات داخل الاتحاد الأوروبي، وتُفتح «ممرات خضراء» للعقود العسكرية، وتُبنى سياسة دفاعية شبه سيادية كانت تُعتبر بالأمس رفاهية.
وأين تكمن القوة؟
في مجالات تفوّق أوروبا التقليدي: الطيران، الدفاع الجوي المتوسط، الصواريخ الأرضية، الرادارات، الحرب الإلكترونية، الأمن السيبراني، بل وحتى الدفاع البنيوي. مجال مملّ ظاهريًا، لكنه هو ما يحوّل «هجومًا على محطة طاقة» إلى «إنذارٍ وغبارٍ على الخرسانة». هو ما يسمح للموانئ بالعمل تحت «مظلّة» دفاعٍ جوي، وللمطارات بالبقاء بعيدة عن الاعتماد على طريقٍ واحدٍ هش. إنها ليست تماثيل برونزية، بل هندسةُ عالمٍ لا يريد أن يختبر نفسه في حربٍ كبرى.
وأخيرًا، ولكن ليس أقل أهمية.
حين يقول الساسة والجنرالات في أوروبا عبارة «بضع سنوات»، فإنهم لا يقصدون الوقت اللازم لخصمٍ محتمل فحسب، بل أيضًا لأنفسهم. فالغاية أن تتحول خطط الناتو من كُتيّباتٍ نظرية إلى شبكةٍ متكاملةٍ من القوات والوسائل. أن تصبح «الجدار ضد المسيّرات» واقعًا ملموسًا من البرمجيات والمستشعرات وأنظمة الاعتراض، لا مجرّد تعبيرٍ صحفي. أن يُسمع صوت لواء ليتوانيا في صوت الحديد لا في الخطب، وأن تتحرك تحت بحر البلطيق ليس فقط الناقلات والعبّارات، بل أسراب الأنظمة الصوتية والآلية لحماية الأعماق. وأن يعرف طواقم المستشفيات والسكك الحديدية، للأسف، كيف يتعاملون مع «الطب الثقيل» — ويفعلون ذلك آليًا، بلا ارتباك.
بكلمةٍ أدق، أوروبا لا تبني خطة حرب، بل خطة سلامٍ عبر الردع — باهظة الكلفة، غير لامعة، لكنها حاسمة الأهمية.
أوروبا تتسلّح بجدّية.
لم تعد مسألة «الجاهزية العسكرية» في أوروبا افتراضية. خلال عامين فقط، انتقلت القارة من حالة الصدمة والعجز إلى بناء قاعدةٍ دفاعيةٍ هيكلية تُذكّر بما كانت عليه في ثمانينيات القرن الماضي. الفرق أن أوروبا اليوم لم تعد تعتمد على واشنطن، بل تسعى لامتلاك استقلالٍ استراتيجيٍ خاص بها، ولو تحت مظلة الناتو.
في مطلع عام 2025، قال جوزيب بوريل في اجتماع مجلس دفاع الاتحاد الأوروبي:
«إذا لم نستطع حماية أنفسنا، فلن يفعل أحدٌ ذلك عنا. أمريكا يمكن أن تساعد، لكنها غير مُلزَمة. علينا أن نصبح قارة أمنٍ مكتفيةً بذاتها».
هذه العبارة أصبحت شعار التفكير الأوروبي الجديد. وخلفها أرقامٌ صارخة: ميزانيات الدفاع في دول الاتحاد الأوروبي بلغت في 2025 مستوىً تاريخيًا — 381 مليار يورو، أكثر من 130 مليار منها مخصصة مباشرة للصناعات الدفاعية. وللمرة الأولى منذ سقوط حلف وارسو، لا تشتري أوروبا السلاح فقط، بل تبنيه بنفسها.
بولندا: الاقتصاد الحربي الجديد للقارة.
اليوم، تمثل بولندا رأس الحربة في الجناح الشرقي للناتو، والمحرك الأساسي لعملية التسلح الأوروبية. كانت أول دولةٍ في الاتحاد الأوروبي تتجاوز في عام 2024 نسبة 3.8% من الناتج المحلي للدفاع — أكثر من أي دولةٍ غير الولايات المتحدة.
الجيش البولندي يضم نحو 215 ألف عسكري، ومع قوات الاحتياط والدفاع الإقليمي يقترب العدد من 450 ألفًا. والهدف بحلول عام 2028 هو الوصول إلى 600 ألف.
منذ عام 2022، أبرمت بولندا صفقات ضخمة:
- 180 دبابة K2 Black Panther و212 مدفعًا ذاتي الحركة K9 من كوريا الجنوبية.
- 32 مقاتلة F-35 من الولايات المتحدة.
- 500 نظام HIMARS وChunmoo.
- عقود إنتاج أنظمة الدفاع الجوي Narew مع ألمانيا والسويد.
وفي عام 2025، بدأ بناء أكبر مصنعين للذخيرة في أوروبا الشرقية — في مدينتي بولافي ورادوم — بالتعاون مع الكوريتين Hanwha وRheinmetall الألمانية، بطاقةٍ إنتاجية تصل إلى 300 ألف قذيفةٍ سنويًا.
الأهم أن بولندا أدرجت رسميًا في استراتيجيتها مفهوم «الاقتصاد الحربي»، الذي يمنح الأولوية للإنفاق الدفاعي وتعبئة الصناعة في حالات الخطر. وقال رئيس الوزراء دونالد توسك بوضوح:
«نحن نعيش في زمن اقتصاد ما قبل الحرب. علينا ألا ننتظر الضربة، بل أن نُعِدّ الرد».
ألمانيا: عودة البوندسفير.
ألمانيا، رمز السلمية طوال عقود، تشهد تحوّلًا تاريخيًا. برنامج "Zeitenwende" الذي أطلقه أولاف شولتس عام 2022 دخل الآن مرحلة التنفيذ الفعلي.
في عام 2025، خصصت الحكومة الفدرالية 100 مليار يورو لصندوقٍ دفاعيٍ خاص، وارتفع الإنفاق العسكري الإجمالي إلى أكثر من 2.2% من الناتج المحلي — مستوى لم تصل إليه حتى في الحرب الباردة.
الهدف الرئيسي: تحويل البوندسفير إلى جيش القرن الحادي والعشرين.
- بحلول عام 2027، ستحصل ألمانيا على 35 مقاتلة F-35.
- 200 عربة مدرعة Puma جديدة.
- وأكثر من 1000 طائرةٍ بدون طيار للاستطلاع من الجيل الجديد.
ويُركّز الألمان كذلك على الطب العسكري واللوجستيات:
يجري تطوير منظومة وطنية للإخلاء الطبي قادرة على استقبال ألف جريحٍ يوميًا، تشمل المستشفيات المدنية وشبكة قطارات طبية ومستشفياتٍ ميدانية متنقلة. كما تُنشأ وحداتٌ خاصة للأمن السيبراني لحماية شبكات الغاز والكابلات البحرية، التي أصبحت هدفًا للهجمات الهجينة في السنوات الأخيرة.
بريطانيا: الرهان على «التحرك السريع».
منذ خروجها من الاتحاد الأوروبي، تحاول لندن إثبات أنها لا تزال محور الأمن الأوروبي. في يناير 2025 أقرّ البرلمان استراتيجية الدفاع الجديدة (SDR-2025) التي ترفع الإنفاق إلى 3% من الناتج المحلي بحلول 2030.
الجيش البريطاني يقلّص عدده ليرفع كفاءته: من أصل 148 ألف جندي، نصفهم في وحداتٍ متنقلة يمكن نشرها خلال 72 ساعة على أراضي الحلفاء.
السلاح البحري يبقى نقطة القوة الحاسمة: الأسطول الملكي البريطاني هو الوحيد في أوروبا القادر على تنفيذ عملياتٍ عالمية. تمتلك المملكة حاملتي طائرات — Queen Elizabeth وPrince of Wales — وخمس غواصات نووية من طراز Astute.
وفي 2025، وقّعت بريطانيا اتفاقًا مع بولندا لإنشاء مقرٍ مشتركٍ للقيادة السريعة في كراكوف يضم نحو ألفي ضابطٍ وخبير اتصالات بريطاني.
فرنسا: الجيش أداة السيادة.
فرنسا، وإن كانت عضوًا في الناتو، تظل دولةً ذات قرارٍ عسكريٍ مستقل وقوةٍ نووية كاملة.
قانون البرمجة العسكرية (LPM-2030) الذي أُقر عام 2023 خصص 413 مليار يورو للدفاع خلال سبع سنوات، منها 69 مليارًا في 2025 — أي ما يعادل 2.4% من الناتج المحلي.
الأولويات واضحة: تعزيز أسطول الطائرات المسيّرة، تحديث دبابات Leclerc، إنتاج فرقاطات FDI Belharra ومقاتلات Rafale F5 متعددة المهام. كما وسّعت فرنسا برامج الاحتياط الوطني: منذ عام 2024 يسري برنامج Service National Universel الذي يُلزم جميع الشباب بين 16 و18 عامًا بتدريبٍ عسكريٍ أولي. والهدف الوصول إلى 350 ألف احتياطي بحلول 2032.
شمال أوروبا: معيار التعبئة النموذجي.
فنلندا والسويد — أحدث عضوين في الناتو — أصبحتا نموذجين في التنظيم الدفاعي.
فنلندا، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5.6 ملايين، تملك 870 ألف احتياطي، وتستطيع حشد 280 ألف مقاتل خلال أسبوعٍ واحد — أعلى كفاءة تعبئةٍ في العالم.
في عام 2025، أغلقت فنلندا حدودها البرية مع روسيا كليًا، ونشرت عليها 40 ألف جندي، وزوّدتها بأنظمة مراقبةٍ إلكترونيةٍ تمتد على طول 1300 كيلومتر.
أما السويد، التي أعادت التجنيد الإجباري عام 2024، فقد بنت بحلول 2025 احتياطًا قوامه 100 ألف جندي. وفي مدينتي مالمو وكارلسكرونا تُشيّد سفن جديدة لأسطول البلطيق التابع للناتو، فيما يُقام في قلب السويد مجمّع ملاجئٍ مدنيةٍ يتسع لـ100 ألف شخص — الأكبر في أوروبا بعد سويسرا.
البلطيق: الدرع قبل العاصفة.
إستونيا ولاتفيا وليتوانيا اليوم هي "خندق الناتو" الأول في وجه الشرق. عقيدتها الدفاعية تقوم على مبدأ "الدفاع الشامل" — أي أن كل مواطنٍ جزءٌ من الجبهة.
ليتوانيا أعلنت إنشاء فيلقٍ جديدٍ للدفاع الإقليمي يضم أربعين ألف مقاتل، وبدأت شراء دبابات Leopard 2 وأنظمة دفاعٍ جوي من طراز IRIS-T من ألمانيا. أما إستونيا ولاتفيا فتبنيان معًا خطًّا من التحصينات بطول 600 كيلومتر يُعرف باسم "الجدار البلطيقي"، يضم ملاجئ إسمنتية، حواجز مضادة للدبابات، شبكات مراقبةٍ بالفيديو، ومستودعاتٍ تحت الأرض.
دول البلطيق تعيد أيضًا تشغيل إنتاجها الخاص من الذخائر: ففي عام 2025 بدأ العمل في مصنع البارود الليتواني-اللاتفي المشترك في مدينة يلغافا بطاقة إنتاجية تبلغ 15 ألف طن سنويًا.
الكتلة الإسكندنافية: كيمياء الحرب الجديدة.
البلدان الإسكندنافية أصبحت مركز إنتاج البارود والمتفجرات التي لا غنى عنها للمدفعية الحديثة.
النرويج توسّع قدرات شركة Nammo لتصل إلى إنتاج مليون قذيفةٍ مدفعية سنويًا بحلول 2026.
السويد، عبر شركة Swebal، تبني مصنعًا لإنتاج المتفجرات عالية الطاقة بطاقة 4 آلاف طن في السنة.
أما الدنمارك، فأطلقت مجمّعًا كيميائيًا جديدًا في مدينة أودنسه بتمويلٍ مشترك مع الصندوق الدفاعي الأوروبي.
وبذلك تتحول شمال أوروبا بالكامل إلى منصةٍ لوجستيةٍ لحلف الناتو: من موانئ كوتكا وتوركو في فنلندا إلى نارفيك في النرويج تُقام مسارات إمدادٍ معدّةٍ لنقل القوات والمعدات بسرعة.
توازن قوى جديد: حرب باردة بلا أوهام.
للمرة الأولى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، تشكل في أوروبا نظام مواجهةٍ جديد يصفه الخبراء بـ"التوتر المتوازن". بمعنى آخر، لا روسيا ولا الناتو يخططان لحربٍ مباشرة، لكن الطرفين يستعدان لها كاحتمالٍ واقعي.
عاد الناتو إلى معايير الثمانينيات: مناوراتٌ دائمة على الجبهة الشرقية، أجنحةٌ جوية في حالة تأهب، أنظمة دفاعٍ جوي، قواعدٌ محصنة، ومخزوناتٌ استراتيجية من الوقود والإمدادات.
من 2023 إلى 2025 ارتفع عدد مناورات الناتو بنسبة 37%.
وخلال عام 2025 وحده، أُجري نحو 280 تمرينًا عسكريًا بمقاييس مختلفة، بينها الأضخم منذ عقود — Steadfast Defender — التي شارك فيها 90 ألف جندي من 31 دولة.
في دول البلطيق وبولندا ورومانيا تنتشر بشكلٍ دائم مجموعاتٌ قتالية متعددة الجنسيات يبلغ عدد أفرادها حوالي 10 آلاف. لكن وظيفتها الأساسية ليست القتال، بل الرسالة السياسية: أي هجومٍ على هذه الدول سيُعتبر هجومًا على الناتو بأكمله.
الاستخبارات وتقييم التهديدات.
بحسب تقرير دائرة العمل الخارجي للاتحاد الأوروبي (EEAS) الصادر في مايو 2025، فإن روسيا "تحوّل اقتصادها تدريجيًا إلى وضع الحرب الطويلة".
إنتاج الذخائر الروسية بلغ 4.5 ملايين قذيفة سنويًا، وإنتاج الطائرات المسيرة ارتفع عشرة أضعافٍ مقارنة بعام 2021.
لكن التقرير يضيف أن هذا التوسع يتم على حساب الاقتصاد المدني: بحلول منتصف 2025 وصلت حصة الإنفاق العسكري إلى 9.8% من الناتج المحلي، فيما تجاوزت الموارد المعبأة 7 تريليونات روبل.
أما معهد RUSI البريطاني فيقول صراحة:
"روسيا تُظهر قدرةً على الصمود، لكنها ليست بلا حدود. الاقتصاد الروسي يتحول إلى منظومةٍ عسكريةٍ أحادية الوظيفة، غير قادرةٍ على الحفاظ على توازنٍ طويل الأمد."
ومع ذلك، فإن الناتو ينطلق من قاعدةٍ واحدة: "استعد للأسوأ."
الأمين العام للحلف، مارك روتّه، قال خلال قمة الدنمارك:
"يجب ألا ننطلق من فكرة أن روسيا ستهاجم، بل من أنها يمكن أن تفعل ذلك. وبالتالي، علينا أن نكون مستعدين."
اقتصاد الحرب: أرقام بلا انفعال.
صحيح أن اقتصاد الدفاع الأوروبي ما زال أبطأ من نظيره الروسي، لكنه يتغير بسرعةٍ قياسية.
ففي عام 2022 كانت أوروبا تنتج 300 ألف قذيفةٍ مدفعيةٍ فقط، أما في منتصف 2025 فأنتجت 1.6 مليون، ومن المتوقع أن تصل إلى 2.5 مليون في عام 2026.
الشركات الدفاعية الأوروبية تعيش طفرةً غير مسبوقة:
- Rheinmetall رفعت أرباحها في 2025 بنسبة 62%.
- BAE Systems بنسبة 47%.
- Thales Group بنسبة 38%.
- MBDA سجلت طلبياتٍ قياسية بقيمة 14 مليار يورو.
ولتنسيق هذا الزخم، تم إنشاء المجلس الصناعي الدفاعي الأوروبي لتوزيع العقود ومراقبة الإنتاج داخل الاتحاد.
أما الجديد حقًا فهو اندماج الصناعات الدفاعية مع الطاقة والنقل: ألمانيا وهولندا وتشيكيا تؤسس شبكة «ممرات عسكرية» — طرق سريعة مصممة خصيصًا لنقل المعدات والوقود والأفراد.
أحد هذه الممرات، "Baltic Express"، يربط موانئ روستوك وغدانسك وكلايبيدا، ويُستخدم حاليًا لنقل شحنات الناتو العسكرية بطاقةٍ تصل إلى نقل ألفي مركبةٍ مدرعةٍ أسبوعيًا.
عودة منطق التعبئة العامة
بالتوازي مع تصاعد التوترات الدولية، بدأت أوروبا بإعادة بناء منظومة التعبئة والاحتياط العسكري من جديد. ففي عام 2025، أعادت 14 دولة من أعضاء حلف الناتو نظام التجنيد الإجباري بصيغ مختلفة، من بينها دول كانت تُعدّ حتى وقت قريب رموزاً للموقف المناهض للعسكرة، مثل هولندا وتشيكيا.
في مدارس فنلندا وبولندا وليتوانيا وفرنسا أُدخلت مقررات «الدفاع المدني» والإسعافات الأولية. أما في جامعات ألمانيا وإيطاليا، فقد أُطلقت برامج تدريب عسكري للمتخصصين في المهن التقنية. فرنسا أعادت العمل بنظام الخدمة الوطنية، فيما فرضت السويد والنرويج على جنود الاحتياط تدريبات إلزامية كل عامين.
ما يجري هو عودة إلى منطق الحرب الباردة، لكن وفق شروط العصر الحديث، حيث لم تعد الأولوية لحجم الجيوش، بل لقدرتها على التعبئة السريعة وتحويل المجتمع إلى «نظام دفاعي» خلال 72 ساعة فقط.
حرب التكنولوجيا: الذكاء الاصطناعي والطائرات المسيّرة
بينما تراهن روسيا على استخدام أعداد ضخمة من الطائرات المسيّرة الرخيصة، فإن أوروبا تستعد لخوض حرب تكنولوجية نوعية. ففي عام 2025 صادقت المفوضية الأوروبية على إطلاق برنامج AI4Defense، الذي يضم 27 جامعة و40 شركة ضمن مركز موحّد لتطوير خوارزميات الذكاء الاصطناعي العسكرية.
الهدف هو بناء منظومة قادرة على تحليل ميدان القتال لحظة بلحظة، وإدارة المدفعية وأنظمة الدفاع الجوي، وتوزيع الأهداف بشكل آلي. ألمانيا وفرنسا تجريان حالياً تجارب على طائرات استطلاع مستقلة تعمل بشبكات عصبية، بينما أعلنت بريطانيا عن إنشاء أول سرب في العالم من طائرات الاعتراض المسيّرة «غوست هوك» لمواجهة طائرات العدو من نوع FPV.
استراتيجية الناتو بأكملها تُختصر اليوم في معادلة واحدة: «الدفاع الذكي بدلاً من الدفاع الكمي».
الجاهزية النفسية والإعلامية
أحد أعمدة الاستراتيجية الأوروبية الجديدة هو «الدفاع المعلوماتي». فبعد موجات من التخريب الإلكتروني والأخبار الزائفة بين عامي 2023 و2024، أُنشئت في الاتحاد الأوروبي وحدة خاصة تحت اسم Hybrid Threats Response Cell، تجمع أجهزة الاستخبارات والإعلام ومراكز الأبحاث.
مهمتها رصد محاولات التأثير المعلوماتي وإحباطها. وفي عام 2025 وحده تمكنت هذه الوحدة من منع أكثر من 70 هجوماً إلكترونياً واسع النطاق استهدف البنى التحتية للطاقة والنقل.
وفي الوقت ذاته، ازداد تشديد الرقابة على الفضاء الإعلامي، إذ أقرّت ألمانيا وليتوانيا وتشيكيا قوانين تُصنّف نشر الروايات الموالية لروسيا كتهديد مباشر للأمن القومي. وهكذا تشكلت في أوروبا تعبئة أيديولوجية شاملة، تُضاف إلى التعبئة العسكرية والاقتصادية، لتجعل القارة مستعدة لصراع طويل المدى.
روسيا والغرب: توازن الردع
الخريطة الحالية للمواجهة تبدو على الشكل التالي: روسيا تمتلك تفوقاً في وتيرة إنتاج الذخيرة والتعبئة، بينما يتفوق الناتو في التكنولوجيا والصناعة واللوجستيات.
الإنفاق العسكري الإجمالي لدول الناتو عام 2025 تجاوز 1.36 تريليون دولار، تشكّل الولايات المتحدة نحو ثلثه، في حين أن أوروبا للمرة الأولى تؤمن أكثر من نصف ميزانية الدفاع للحلف.
وبحسب مركز الأبحاث الدولي SIPRI، فإن كل روبل تنفقه روسيا على الدفاع يقابله سبعة يوروهات من جانب الناتو، وهي فجوة لا يمكن سدها حتى بجهود التعبئة الروسية أو مخزونها من السلاح.
لذلك يرى معظم الخبراء العسكريين أن احتمال غزو روسي مباشر لأوروبا يبقى ضعيفاً خلال السنوات الثلاث أو الأربع المقبلة، إذ من الصعب على موسكو خوض حربين شاملتين في آن واحد. لكن جوهر المشكلة هو أن المواجهة تتحول إلى صراع طويل الأمد، أشبه بـ«شتاء أبدي» لا نهاية منظورة له.
حرب باردة جديدة بلا جبهة، لكن بمليارات الدولارات
يُقدّر خبراء البنك المركزي الأوروبي أن الإنفاق على الدفاع والأمن سيصبح في عام 2026 ثاني أكبر قطاع في اقتصاد الاتحاد بعد الطاقة. أوروبا تعيد هيكلة لوجستيتها وميزانيتها وصناعتها وتعليمها، وكل ذلك لخدمة هدف واحد: البقاء في زمن اللايقين.
ورغم أن الحرب لم تُعلن رسمياً، فإن القارة باتت تعيش وفق قوانين التعبئة. تُنشأ مخزونات غذائية، وتُعاد هيكلة طرق النقل، وتُقام صناديق استراتيجية للوقود والمعادن النادرة.
في السويد دخلت منذ 2025 حيّز التنفيذ خطة حكومية بعنوان «إذا اندلعت الحرب غداً»، تُعلّم المواطنين كيف يتصرفون عند انقطاع الاتصالات أو انقطاع الكهرباء أو القصف. الأمر ذاته يحدث في فنلندا ولاتفيا وإستونيا وبولندا. أوروبا بدأت تتعايش مع فكرة أن السلام لم يعد مضموناً.
توقعات 2026–2028
وفق تقديرات استخبارات الناتو، فإن احتمال اندلاع صراع واسع مع روسيا خلال الأعوام الثلاثة المقبلة لا يتجاوز 15%، لكنه في ازدياد. السبب يعود إلى غموض الوضع الداخلي في روسيا، ومآلات الحرب في أوكرانيا، وتنامي النزعة العسكرية حول العالم.
التغير الأبرز هو في الوعي نفسه: قبل خمس سنوات كان الحديث عن حرب أوروبية يبدو مبالغاً فيه. أما اليوم فقد صار سيناريوً مطروحاً على طاولات التخطيط.
إذا كان عام 2014 محطة اللاعودة، و2022 عام الانفجار، فإن 2025 هو عام التعبئة. أوروبا لا تريد الحرب، لكنها تستعد لها بالجدية نفسها التي كانت تستعد بها للسلام.