شهد أغسطس 2025 نقطة انعطاف في عادات الأذربيجانيين الرقمية. فبحسب بيانات المنصات التحليلية، قفزت نسبة مستخدمي إنستغرام بمقدار 8,69 نقطة مقارنة بيوليو، لتصل إلى 42,7%. وهذا يعني أن ما يقارب نصف مستخدمي الإنترنت في أذربيجان اليوم يعتمدون على إنستغرام كمنصتهم الأولى للتواصل، متابعة الأخبار والترفيه. للمقارنة، قبل عامين فقط، في صيف 2023، كانت حصة إنستغرام لا تتجاوز 28–30%، فيما كان فيسبوك يتصدر المشهد.
تراجع فيسبوك وصعود المنافسين
في المقابل، سجل فيسبوك تراجعاً ملحوظاً، إذ هبطت حصته إلى 30,76%، أي أقل بنسبة نقطة تقريباً عن يوليو. وللمرة الأولى منذ 2015، استقر فيسبوك في المركز الثاني، خاسراً تفوقه ليس فقط لدى الشباب، بل وحتى بين شرائح من كبار السن.
أما يوتيوب، الذي طالما كان المنصة الأولى للفيديو في أذربيجان، فقد تراجع بشكل حاد إلى 10,27%، منخفضاً بأكثر من خمس نقاط خلال شهر واحد. الخبراء يربطون ذلك بصعود الفيديوهات القصيرة عبر Reels وTikTok، إضافة إلى قيود جديدة على نظام الإعلانات فرضها يوتيوب في المنطقة.
بينما حافظت منصة Pinterest على المركز الرابع بنسبة 6,15%، وإن بخسارة طفيفة، وارتفعت حصة X (تويتر سابقاً) بشكل محدود إلى 7,2%. المنصة لا تزال محصورة في جمهور محدد من الصحفيين والسياسيين والباحثين والشباب المتابعين للنقاشات الدولية. أما LinkedIn فقد واصل تقدمه الطفيف إلى 1,65%، معززاً مكانته كأداة مهنية مع اتساع سوق تكنولوجيا المعلومات في البلاد. أما باقي الشبكات مجتمعة، فاستحوذت على 1,28% فقط، ما يؤكد تمركز المشهد الرقمي حول خمس أو ست منصات كبرى.
تغيّر العادات الإعلامية وبروز إنستغرام كمنصة جامعة
القفزة شبه التسع نقاط لإنستغرام خلال شهر واحد ليست مجرد تحول تقني، بل تعكس تحولاً اجتماعياً وثقافياً. فالمنصة التي بدأت كشبكة صور شخصية، تحولت اليوم إلى فضاء إعلامي متكامل، يضم المدونين والمؤسسات الرسمية والهيئات الدولية على حد سواء.
ووفق تقرير DataReportal لأغسطس 2025، يمضي الأذربيجانيون في المتوسط ثلاث ساعات و14 دقيقة يومياً على شبكات التواصل، 65% منها على إنستغرام، وهي نسبة تتجاوز حتى المعدلات العالمية (56%).
لماذا يفضّل الأذربيجانيون إنستغرام؟
الأسباب متعددة. أولاً، خوارزميات Reels فتحت الباب أمام المدونين المحليين لتحقيق انتشار واسع من دون إعلانات مدفوعة، حتى في مدن مثل غنجة وسومغايت وخاتشماز، بعدما كان النفوذ الإعلامي حكراً على باكو.
ثانياً، أصبح إنستغرام القناة الأساسية لتداول الأخبار السريعة. ففيما ما يزال التلفزيون يحافظ على جمهوره التقليدي، تعاني المواقع الإخبارية من تراجع الزيارات المباشرة. بحسب مركز MediaPulse، 71% من الشباب الأذربيجاني تحت سن الثلاثين يتلقون أخبارهم أولاً عبر إنستغرام.
فيسبوك: منبر النقاشات المحلية
تراجع فيسبوك إلى 30,76% لا ينفصل عن السياق العالمي، إذ تفقد المنصة جاذبيتها أمام الأجيال الشابة لصالح صيغ أكثر ديناميكية وبصرية. لكن رغم ذلك، ما يزال لفيسبوك وزن واضح في أذربيجان، حيث تنشط فيه المجموعات النقاشية، المجتمعات المهنية، مجموعات أولياء الأمور، إضافة إلى شريحة واسعة من الناشطين السياسيين الأكبر سناً.
المفارقة أن دور فيسبوك في الأخبار تراجع، لكنه بات أكثر حضوراً في المبادرات الاجتماعية. ففي يونيو ويوليو وحدهما، شهدت المنصة تأسيس أكثر من 600 مجموعة محلية لجمع التبرعات لصالح ضحايا الحرب في سوريا وفلسطين. ما يؤكد أن المنصة لم تفقد قيمتها، بل غيّرت وجهة تأثيرها.
يوتيوب.. أزمة الفيديو التقليدي
هبوط يوتيوب إلى 10,27% في أغسطس يعبّر عن ثلاث ظواهر أساسية:
أولاً، هجرة الجمهور نحو الفيديوهات القصيرة في إنستغرام وTikTok.
ثانياً، تراجع ثقة المستخدمين بالمحتوى الطويل، خصوصاً في السياسة والمجتمع، إذ لا يثق سوى 18% من المستطلعين بمدوني يوتيوب كمصدر للأخبار، مقابل 27% يثقون بمحتوى إنستغرام.
ثالثاً، البعد الاقتصادي: فقد تراجعت عوائد المعلنين المحليين على يوتيوب بنسبة 14% مقارنة بـ2024، ما دفع عدداً كبيراً من صناع المحتوى نحو إنستغرام، حيث العقود المباشرة مع الشركات أكثر ربحية.
Pinterest وX: جماهير خاصة وأدوار محددة
Pinterest، بنسبة 6,15%، يحافظ على جمهوره النسائي والمجتمعات الإبداعية المهتمة بالموضة والديكور والطعام. ورغم التراجع الطفيف، فإنه يبقى منصة غير قابلة للاستبدال.
أما X (تويتر سابقاً) بنسبة 7,2%، فهو فضاء النخب السياسية والإعلامية. هنا يناقش الأذربيجانيون ملفات إقليمية ودولية، من معاهدة السلام مع أرمينيا، إلى سياسات الطاقة في بحر قزوين، إلى الدور الدبلوماسي لتركيا. وفي يوليو 2025، حين طرحت واشنطن مبادرة لفرض عقوبات جديدة على صادرات النفط الروسية، كان خبراء أذربيجان من أبرز الأصوات التي شرحت تداعيات الخطوة عبر X، ما جعله أداة حقيقية لـ"الدبلوماسية غير الرسمية".
LinkedIn: مرآة التحولات الاقتصادية
وصول LinkedIn إلى 1,65% يعكس التحولات العميقة في اقتصاد البلاد. خلال عام واحد فقط، ارتفع عدد الوظائف المنشورة في قطاع تكنولوجيا المعلومات بنسبة 21%. وبرزت بقوة الشركات الدولية التي افتتحت فروعاً في باكو وسومغايت.
في أغسطس 2025، تجاوز عدد الحسابات الأذربيجانية النشطة على LinkedIn 110 آلاف، أي بزيادة تقارب 40% عن 2023. هذا الحضور يعكس صعود أذربيجان كمركز طاقة ولوجستيات إقليمي، ما يجعل حتى النسبة المتواضعة للمنصة ذات دلالة استراتيجية.
وسائل التواصل الاجتماعي كساحة للتواصل السياسي
مع مطلع 2024–2025 تحولت شبكات التواصل الاجتماعي في أذربيجان إلى ما يشبه ساحة برلمانية مفتوحة. فإذا كانت النقاشات السياسية سابقاً محصورة في دوائر ضيقة، فإن إنستغرام وX (تويتر سابقاً) باتا اليوم أدوات لصياغة الأجندة العامة.
أبرز مثال على ذلك جاء بعد تصريح رئيس وزراء أرمينيا في يوليو حول «الحاجة إلى ضمانات أمنية دولية». فقد أشعلت المنصات موجة تفاعلات واسعة في أذربيجان، حيث انهالت التعليقات والميمات والتحليلات عبر إنستغرام وX. ووفق بيانات SocialBaku، جمع الوسم #peacewithoutoccupation أكثر من 4,8 مليون مشاهدة خلال 24 ساعة فقط.
أما فيسبوك فما يزال حاضراً بقوة في النقاشات السياسية، لكنه أصبح أكثر ارتباطاً بالجيل الأكبر سناً، الذي يفضل النقاشات المطولة والنصوص الطويلة، على عكس إيقاع إنستغرام السريع.
البعد الجيوسياسي: الإعلام الرقمي والأمن المعلوماتي
مع صعود إنستغرام وX، تبرز تحديات أمنية جديدة. فبحسب تقرير وكالة الأمن السيبراني الوطنية في أغسطس 2025، ارتفع عدد الحسابات الوهمية التي تروج لخطاب معادٍ للإسلام أو لأذربيجان بنسبة 27% في النصف الأول من العام.
ويتركز القلق على التدخل الخارجي، حيث رصد المحللون نشاطاً ملحوظاً لشبكات مرتبطة بأرمينيا ودوائر روسية تستخدم X وفيسبوك لتسويق روايات منحازة حول قضية كاراباخ. ففي يوليو وحده تم اكتشاف أكثر من 1500 صفحة على فيسبوك تروّج ممنهجاً لمعلومات مضللة عن جنوب القوقاز.
في المقابل، عززت باكو تعاونها مع شركات التكنولوجيا الكبرى. ففي أغسطس 2025 وقّعت وزارة التنمية الرقمية والنقل اتفاقاً مع شركة Meta لتسريع آليات المراقبة والمحتوى على اللغة الأذربيجانية.
ثقافة الشباب وإنستغرام كـ«سياسة جديدة»
الارتفاع السريع لإنستغرام إلى 42,7% في أغسطس لا يمثل مجرد رقم إعلامي، بل يعكس تحولات اجتماعية عميقة. فالشباب، الذين يشكلون أكثر من 40% من السكان، يعتبرون إنستغرام بيئتهم الطبيعية للتعبير والتفاعل. على عكس فيسبوك الذي يقوم على النصوص الطويلة، يقوم إنستغرام على الصور والفيديوهات القصيرة والستوري.
هنا تتشكل ثقافة سياسية جديدة: الميمات حلت محل الملصقات الدعائية، والفيديوهات القصيرة أصبحت أكثر تأثيراً من البرامج الحوارية الطويلة. صانعو الرأي الشباب، الذين لا يملكون منفذاً إلى الإعلام التقليدي، يبنون جمهورهم عبر Reels. وحدها مقاطع يوليو–أغسطس 2025 السياسية والاجتماعية حققت أكثر من 280 مليون مشاهدة.
وبحسب تقرير Global Digital 2025، فإن 72% من الشباب الأذربيجاني بين 18 و25 عاماً يثقون بما يرونه على إنستغرام أكثر من وسائل الإعلام التقليدية، ما يعكس قوة المنصة، لكنه يكشف أيضاً هشاشتها، حيث تصبح قابلة للاستغلال في التلاعب والتأثير.
تيك توك: الحضور غير المعلن
رغم غيابه عن الإحصاءات الرسمية، إلا أن تأثير تيك توك بين الشباب الأذربيجاني صار لافتاً. تشير أبحاث مستقلة إلى أن حصته تراوحت بين 11 و13% في أغسطس 2025، لكن بسبب طبيعة التسجيلات المحلية واستخدام الـVPN لا تظهر هذه الأرقام في تقارير رسمية.
تيك توك لم يعد مجرد منصة ترفيه، بل تحوّل إلى فضاء لعرض قضايا التعليم والهجرة وفرص العمل، إضافة إلى مناقشة ملفات حساسة مثل حقوق الشباب والمساواة بين الجنسين. ورغم غيابه من المراتب الرسمية، فإنه ينافس بوضوح يوتيوب وPinterest على وقت الجمهور، وقد يصل خلال السنوات المقبلة إلى حصة تتجاوز 15–17%.
الصحافة في عصر الاستهلاك الرقمي
شبكات التواصل لم تكتفِ بتغيير عادات الجمهور، بل أعادت تشكيل الصحافة نفسها. فالمواقع الإخبارية لم تعد مستقلة في وصولها للجمهور، إذ تراجع التصفح المباشر إلى هذه المواقع بنسبة 19% منذ 2022، في حين ارتفعت نسبة القراء القادمين من وسائل التواصل بـ37%.
هذا الواقع أجبر غرف الأخبار على التكيف: نصوص قصيرة، إنفوغرافيك، وفيديوهات لا تتجاوز دقيقة. وإلا فإن الخبر يختفي بلا أثر. لكن هذا التغيير فتح الباب أيضاً أمام سيل من الأخبار الكاذبة. فقد أشار تقرير المرصد الأوروبي للإعلام الرقمي (أغسطس 2025) إلى أن إنستغرام وX هما المنصتان الأساسيتان لنشر الشائعات عن أحداث دولية في المنطقة.
الدبلوماسية الرقمية: من الداخل إلى الخارج
شبكات التواصل باتت أداة مباشرة للسياسة الخارجية الأذربيجانية. يظهر ذلك جلياً في ملفات كاراباخ والدبلوماسية الإقليمية. المسؤولون الأذربيجانيون يستخدمون X بانتظام لتوضيح المواقف لجمهور عالمي.
في أغسطس 2025 وحده، نشر وزير الخارجية وفريقه أكثر من 50 إنفوغرافيك وفيديو عبر X وإنستغرام لتوضيح مسار المفاوضات السلمية. هذه المواد حصدت أكثر من 12 مليون مشاهدة، ثلثها من خارج أذربيجان، ما جعلها جزءاً لا يتجزأ من الدبلوماسية العامة.
مخاطر البيئة الرقمية: هجمات سيبرانية وتدخلات خارجية
الطفرة في نشاط شبكات التواصل خلقت بدورها بيئة خصبة للتهديدات السيبرانية. تقرير وكالة الأمن السيبراني الوطنية (أغسطس 2025) حدد ثلاث ملامح رئيسية:
أولاً، تزايد غير مسبوق للحسابات الوهمية المرتبطة بمصادر خارجية. ففي يوليو–أغسطس وحدهما، جرى إغلاق أكثر من 3200 حساب على إنستغرام يروّج معلومات مضللة عن كاراباخ، بعضها يُدار من أرمينيا وروسيا.
ثانياً، موجة هجمات على حسابات الصحفيين والناشطين، حيث سُجلت أكثر من 400 محاولة اختراق في أغسطس، بزيادة 35% عن يونيو، مرتبطة بالسجال حول معاهدة السلام.
ثالثاً، توظيف تقنيات متقدمة في التضليل مثل "الديب فيك" والمحتوى الصناعي. ففي يوليو 2025 انتشر مقطع مفبرك على X يظهر مسؤولاً أذربيجانياً يدلي بتصريحات مستفزة، حصد 250 ألف مشاهدة خلال يوم واحد قبل كشف زيفه.
هكذا باتت شبكات التواصل في أذربيجان أكثر من مجرد أدوات ترفيه أو تواصل، بل جزءاً من السياسة والمجتمع، وحلبة صراع على الوعي والأمن والمستقبل.
لتفاعل المجتمعي والإجراءات الحكومية
أصبح المجتمع الأذربيجاني أكثر حساسية تجاه ظاهرة التضليل الإعلامي. فوفق استطلاع أجرته مؤسسة MediaPulse في أغسطس 2025، أكد 61% من المستخدمين أنهم واجهوا أخباراً زائفة على شبكات التواصل خلال الأشهر الثلاثة الماضية.
الحكومة بدورها تكثف تحركاتها. ففي الشهر نفسه وقّعت وزارة التنمية الرقمية والنقل مذكرة تفاهم مع شركة Meta لتأسيس فريق محلي من المشرفين يتقنون اللغة الأذربيجانية، بهدف تسريع الاستجابة للمحتوى المضلل والخطاب التحريضي. بالتوازي، يزداد الطلب على "المعرفة الإعلامية"، حيث بدأت مدارس باكو في سبتمبر 2025 تطبيق برنامج تجريبي بعنوان «الثقافة الرقمية» لتعليم المراهقين كيفية التمييز بين المعلومة الموثوقة ومحاولات التلاعب.
توقعات 2026: سيناريوهات محتملة
يتوقع المحللون عدة مسارات للعام المقبل:
- تعزيز موقع إنستغرام: إذا استمر المنحى الحالي، فقد تصل حصته إلى 45–47% منتصف 2026، مدعومة بانتشار Reels وتنامي التجارة الإلكترونية عبر المنصة.
- استقرار فيسبوك: رغم التراجع، لن يختفي فيسبوك، إذ ستبقى حصته في حدود 28–30%، مع تركيز أكبر على المجموعات المحلية، المجتمعات الأسرية، والدردشات المهنية.
- صعود تيك توك: إذا لم يتعرض للحجب، فقد يصل إلى 15% بنهاية 2026، منافساً يوتيوب بقوة.
- تخصص LinkedIn وX: الأول سيواصل النمو مع تطور الاقتصاد، والثاني سيبقى منبراً سياسياً ودولياً فاعلاً.
مقارنة: أذربيجان، تركيا وجورجيا
تشهد المنطقة مسارات متقاربة لكن مع فروقات واضحة:
- تركيا: إنستغرام يتصدر بأكثر من 50%، فيما يتراجع فيسبوك لكنه يظل مؤثراً في السياسة والمجتمعات المحلية. تيك توك الأسرع نمواً (+22% خلال عام). X في تركيا يحظى بحضور ضخم بين الصحفيين والسياسيين، وغالباً ما تتصدر وسومه قوائم الترند العالمية.
- جورجيا: هنا ما يزال فيسبوك في الصدارة (44%)، يليه إنستغرام (38%). يوتيوب يحتفظ بـ12% ويُستخدم بشكل أوسع من أذربيجان. تيك توك عند حدود 10–11%. الثقافة الجورجية ما تزال أقرب إلى النقاشات النصية الطويلة.
- أذربيجان: أقرب إلى تركيا من حيث هيمنة إنستغرام وحضور X في القضايا الدولية، لكنها تشبه جورجيا في استمرار دور فيسبوك. الفارق الأبرز هو الانهيار السريع لحصة يوتيوب، وهو ما لم يحدث بالحدة نفسها لدى الجيران.
الأهمية الإقليمية
وسائل التواصل لم تعد مجرد أدوات داخلية، بل صارت عاملاً في التنافس الجيوسياسي. ففي بيئة تتسم بقيود على الإعلام التقليدي، تلعب إنستغرام وتيك توك وX دور ساحات عابرة للحدود. بالنسبة لأذربيجان، فإن معركة كسب الجمهور المحلي مرتبطة مباشرة بالصورة الدولية للبلاد.
سر صعود إنستغرام في أذربيجان
قفزة إنستغرام إلى 42,7% في أغسطس 2025 ظهرت في تقارير StatCounter، حيث احتل المركز الأول متقدماً على فيسبوك (30,76%) ويوتيوب (10,27%). ليست ظاهرة محلية فقط، بل تتماشى مع اتجاهات إقليمية. وبحسب الإحصاءات، خسر يوتيوب 72% من حصته خلال ثلاثة أشهر، بينما حصد إنستغرام وحده 8,69 نقطة في أغسطس.
هذا التحول تغذيه عوامل عدة: نضج السوق الرقمي (9,23 مليون مستخدم إنترنت مع بداية 2025، أي 89% من السكان)، وصوله إلى مرحلة التشبع (6,73 مليون حساب على السوشال ميديا أي 64,9% من السكان)، إضافة إلى الانتقال الكاسح نحو الهاتف المحمول. فثلثا التصفح في البلاد عبر الأجهزة الذكية، ما يفسر تفوق الفيديوهات القصيرة والعمودية على المقاطع الطويلة.
المخاطر: التضليل والهجمات المنسقة
لكن مع تزايد الاعتماد على المنصات، تتضاعف التهديدات. في الربع الأول من 2025، أعلنت Meta عن تفكيك شبكات سرية للتأثير مصدرها إيران، الصين ورومانيا. هذه السوابق لا تخص أوروبا أو أمريكا فقط، بل تمثل إنذاراً لبلدان مثل أذربيجان حيث يعتمد الخطاب السياسي على إنستغرام وX.
الخطر الأكبر أن «الفيروسية» لم تعد تتطلب شبكات ضخمة، بل يكفي نشاط مجموعة صغيرة من الحسابات لاستهداف موضوع حساس. لذلك تعتبر باكو أن بناء قنوات مباشرة مع المنصات (مراقبة محلية، استجابة أسرع) أولوية استراتيجية. ومن هنا جاء توسع وزارة التنمية الرقمية في شراكاتها التقنية خلال 2025، متماشية مع استراتيجية الذكاء الاصطناعي الوطنية 2025–2028، والتي عززتها بمذكرة تفاهم مع شركة Presight في سبتمبر الماضي.
بهذا المعنى، صعود إنستغرام لا يمثل مجرد تحول إعلامي، بل انعكاساً لمرحلة جديدة في معركة الوعي والسيطرة على السرديات، داخلياً وإقليمياً على حد سواء.
وسائل التواصل الاجتماعي كقوة ناعمة: من الأجندة الداخلية إلى الجمهور الخارجي
إنستغرام كـ«إعلام افتراضي» وX كـ«دبلوماسية ثانية
الهيكل الرقمي في أذربيجان اليوم يقدّم مزيجاً فعالاً من المنصات:
- إنستغرام أصبح "الإعلام الافتراضي الافتراضي" للجمهور: البطاقات، الستوري، مقاطع Reels والإنفوغرافيك المصغر تتيح تبسيط قضايا معقدة مثل الطاقة، اللوجستيات أو مسار السلام، بلغة سهلة وسريعة تصل خصوصاً إلى فئة 18–34 عاماً، التي نادراً ما تنخرط في الصحافة السياسية التقليدية.
- X بدوره يعمل كأداة لـ«الدبلوماسية غير الرسمية»، حيث يُستخدم للتواصل المباشر مع الصحفيين الدوليين، المحللين، الدبلوماسيين السابقين والحاليين، ومنظمات المجتمع المدني. لبلد ذي أجندة نشطة في مجالات الطاقة والنقل، هذا الفضاء يعتبر نافذة حيوية.
لكن القوة الناعمة لا تتوقف عند حدود السياسة. هناك أيضاً الدبلوماسية الاقتصادية: من قطاع تكنولوجيا المعلومات إلى الصناعات الإبداعية. على LinkedIn يتزايد حجم التوظيف والإعلانات في مجالات ICT واللوجستيات. ورغم أن حصة المنصة لا تزال صغيرة محلياً، إلا أنها بمثابة واجهة أمام شركات التوظيف العالمية والمستثمرين. وتدعم ذلك البنية المؤسسية مثل أجندة الذكاء الاصطناعي الوطنية (مذكرة تفاهم وزارة التنمية الرقمية مع Presight)، التي تمثل إشارة واضحة إلى نضج الإدارة الرقمية في البلاد.
الصحافة والإعلان: أثر «الإنستغرامية»
في 2025 أصبحت نماذج توزيع الأخبار مرتبطة بالمنصات. عالمياً وصلت حصة الإعلان الرقمي إلى نحو ثلاثة أرباع الميزانيات، مع إجماع المجموعات الاستشارية الكبرى على توقع نمو إيرادات الإعلانات بنسبة 6% سنوياً. المحركات الأساسية: انتشار المحتوى الذي ينتجه المستخدمون (UGC)، هيمنة الفيديو، وتسارع دمج الذكاء الاصطناعي في الإبداع والاستهداف.
هذا التحول انعكس في باكو أيضاً: باتت العلامات التجارية ووسائل الإعلام تميل إلى «التعبئة القصيرة» — نص مختصر + بطاقة + فيديو عمودي. الأمر يتطلب من الجمهور مهارات في المعرفة الإعلامية لتمييز المصادر، ومن غرف الأخبار دقة عالية في التحقق حتى لا تخسر معركة «السرعة ضد المصداقية».
اقتصاد الانتباه والمكاسب للمشروعات الصغيرة
الأهمية لا تقتصر على الإعلام، بل تمتد إلى القطاع الاقتصادي، وخاصة المشاريع الصغيرة والمتوسطة:
- المبيعات وتوليد العملاء عبر إنستغرام: بنسبة 42,7% من الحصة، أصبح المنصة الرئيسية للموضة، الجمال، الأغذية والمشاريع الخدمية. كثير من المتاجر الصغيرة تستخدمه كبديل كامل عن الموقع الإلكتروني (واجهة + محادثة + توصيل).
- التجارة الإلكترونية: رغم أن السوق المحلي لا يزال في حدود عشرات ملايين الدولارات سنوياً، إلا أن النمو ثابت عند 5–10% سنوياً. شبكات التواصل تبقى المصدر الأرخص لجلب العملاء، ما يمنح Instagram والعروض الرقمية قيمة أعلى من البحث التقليدي أو المنصات الكبرى.
- الأولوية للمحمول: ثلثا التصفح يأتي من الهواتف الذكية، ما يجعل الرهان على الفيديو القصير والستوري والصيغ العمودية رهاناً مضموناً.
الشتات والأثر الخارجي
الشتات الأذربيجاني يمثل مضاعفاً للقوة الرقمية و«مترجماً» للسردية الوطنية نحو الخارج. عملياً:
- X يُستخدم للتواصل بالإنجليزية والتركية مع الإعلام الدولي ومراكز الأبحاث، عبر سلاسل تغريدات، روابط لتقارير وخرائط، وردود مباشرة على الصحفيين.
- إنستغرام يتحول إلى أداة لـ«الدبلوماسية الشعبية»، عبر قصص بصرية وسرديات إنسانية أقرب إلى الجمهور الأوروبي والأمريكي من الأرقام الجافة.
من خلال الجمع بين هذين النمطين، يمكن لأذربيجان أن تتجاوز الحواجز اللغوية والثقافية، وتشرح مواقفها في القضايا الحساسة بهدوء، مستندة إلى بيانات موثوقة بعيداً عن الخطاب العاطفي المبالغ فيه.
البعد السياسي: ما الذي يجب أن تراعيه الدولة والمؤسسات
- المراقبة المحلية والتواصل مع المنصات: وجود اتفاقات واضحة مع الشركات الكبرى حول أولوية التعامل مع المحتوى باللغة الأذربيجانية والتدخل السريع في «المناطق الرمادية» (الأخبار الكاذبة، الديب فيك، حملات التحرش الموجه) هو عنصر حاسم في صمود الفضاء الرقمي. تقرير Meta للربع الأول 2025 أشار إلى تشديد التعاون ضد شبكات التأثير الخفية، ما يعني أن أذربيجان مطالبة بالبقاء في حوار دائم مع المنصات على المستويين الفني والسياسي.
- إضفاء الطابع المؤسسي على التحقق من الأخبار والتعليم الإعلامي: إطلاق برامج تربوية شاملة من المدارس إلى الجامعات والقطاع العام، لتعليم الأجيال قراءة المحتوى البصري بنفس النقدية التي يُقرأ بها النص المكتوب. هذا الاستثمار أرخص بكثير من معالجة أزمات السمعة لاحقاً.
- التحليل العلني اعتماداً على البيانات المفتوحة: تقديم إحاطات شهرية من الدولة أو المنظمات المدنية تتضمن أرقاماً دقيقة (حصة المنصات، موجات النقاش، مصادر الأخبار الكاذبة) سيزيد الثقة ويقلل هامش التلاعب.
توقعات 2026: سيناريوهات واقعية
- إنستغرام 45–47% إذا استمر زخم Reels وتوسعت التجارة المدمجة داخل المنصة (قاعدة أغسطس 42,7%).
- فيسبوك 28–30% كمنصة مخصصة أكثر للجماعات المحلية، النقاشات الطويلة، وخدمات peer-to-peer.
- تيك توك 13–15% من «الانتباه الفعلي»، حتى لو لم تظهر الأرقام الرسمية بدقة، مع منافسة مباشرة ليوتيوب وPinterest.
- LinkedIn 2%+ وX عند 7–9%: الأول يتوسع مع قطاع ICT واللوجستيات، والثاني يحافظ على موقعه كمنصة سياسية وخارجية.
- التجارة الإلكترونية بنمو 5–10% سنوياً مع تحويل ميزانيات التسويق إلى الصيغ العمودية والاجتماعية.
خطوات عملية الآن: للدولة، الإعلام والأعمال
- للاتصالات الحكومية:
- توحيد إرشادات اللغة البصرية (ألوان، خطوط، أنماط إنفوغرافيك).
- مكتبة «شروحات» جاهزة لقضايا الطاقة، الممرات اللوجستية، القضايا الإنسانية.
- بروتوكولات ضد الديب فيك وسيناريوهات «نفي سريع بالإنفوغرافيك».
- ثلاث مستويات للتصعيد (مراقبة محلية → فرق إقليمية → السياسات العالمية)، مع تقارير شهرية شفافة للرأي العام.
- للتحرير والإعلام:
- لكل خبر مساران: فيديو قصير عمودي ببيانات أساسية + مادة موسعة بوثائق وروابط.
- بناء «رصيد الثقة» عبر الاعتماد على مصادر مفتوحة (StatCounter، DataReportal)، إنشاء أدوات تواصل تفاعلية، واعتماد سياسة واضحة لتصحيح الأخطاء.
- للمشروعات الصغيرة والمتوسطة:
- مزج إعلاني يجمع بين Reels/Stories ونماذج توليد العملاء والصفحات المصغرة، مع التركيز على حركة المرور عبر المحمول.
- الاستثمار في المحتوى الذي يصنعه المستخدمون (UGC)، وهو الاتجاه الأبرز عالمياً في 2025.
- اعتبار التجارة الإلكترونية «الصندوق الثاني» للإيرادات، عبر الاشتراكات والدفع داخل التطبيقات، بدلاً من تضخيم ميزانيات جلب الزوار.
الإطار الإقليمي: موقع أذربيجان على خريطة القوقاز وما وراءها
أنماط الاستهلاك في أذربيجان أقرب إلى تركيا (هيمنة إنستغرام والدور الكبير لـX في السياسة) وأبعد عن جورجيا (حيث لا يزال فيسبوك الأقوى). هذه ميزة نسبية: فنحن أسرع في التكيف مع «المحتوى العمودي المحمول» وأكثر استعداداً لشرح القضايا المعقدة للمتلقي الخارجي بصياغة بصرية سهلة.
الصورة الجديدة: سوق بإعادة توزيع كاملة
ما شهدناه في أغسطس ليس مجرد «طفرة لحظية» بل إعادة تشكيل كاملة:
- إنستغرام = المعيار الإعلامي.
- X = الصوت الخارجي ومنصة النقاشات النخبوية.
- فيسبوك = النسيج المحلي للمجتمعات.
- يوتيوب = منصة «الانتباه الطويل» التي تخسر حصصها لصالح الفيديوهات القصيرة لكنها تظل مهمة للأفلام الوثائقية والأرشفة.
لكي تتحول هذه البنية إلى رافعة وطنية، تحتاج أذربيجان إلى استراتيجية تغطي: المراقبة المحلية والبروتوكولات مع المنصات، مؤسسات تحقق الأخبار والتعليم الإعلامي، صياغة بصرية ممنهجة للأجندة الوطنية، ونضج تقني في إدارة الدولة الرقمية (بما في ذلك البنية التحتية للذكاء الاصطناعي والشراكات الدولية). عندها تصبح الإحصاءات أداة عملية في يد الإعلام والاقتصاد والمجتمع والدولة، وليست مجرد سباق أرقام بين المنصات.