...

دخل مصطلح "الحرب الهجينة" إلى التداول الواسع في النصف الثاني من العقد الأول من الألفية الجديدة وبداية العقد الثاني. ويقصد به نمط جديد من إدارة الصراعات يجمع بين العمليات العسكرية التقليدية وأدوات غير تقليدية للضغط على الدولة والمجتمع المستهدف. فالأمر لا يقتصر على الضربات العسكرية، بل يشمل الهجمات السيبرانية، التخريب الاقتصادي، التلاعب بالرأي العام، الحملات المضللة، إضافة إلى دعم الحركات الانفصالية أو غيرها من القوى المعادية للسلطة.

اليوم، أصبح تعبير "الحرب الهجينة" ومشتقاته مثل "التهديدات الهجينة" و"الهجمات الهجينة" جزءا من الخطاب السياسي والتحليلي والإعلامي. ويستخدم لوصف كل أشكال العدائية التي لا ترتقي إلى مستوى الحرب المباشرة. لكن كثيراً من الخبراء يلفتون إلى أن المفهوم غامض وفضفاض، ما يفتح الباب لاستخدامه بشكل مفرط أو حتى لأغراض دعائية بحتة.

كيف ولدت الفكرة؟

من أوائل من صاغ المفهوم في معناه المعاصر كان الجنرال الأميركي جيمس ماتيس. ففي سبتمبر 2005 عرض ورقة في منتدى دفاعي، ثم نشر مع الضابط فرانك هوفمان مقالا بعنوان: "حروب المستقبل: صعود الحروب الهجينة". لاحقاً طور هوفمان هذه الرؤية من خلال مقالات وكتب، معتمداً على تجربة حرب لبنان الثانية عام 2006. في تلك الحرب قدمت "حزب الله" نموذجا غير مسبوق: من استخدام الصواريخ البحرية والمجنحة إلى حرب العصابات، وصولاً إلى حملة إعلامية ضخمة ضد إسرائيل.

هوفمان اعتبر أن خصوم الولايات المتحدة سيتبعون نفس النهج مستقبلاً: الجمع بين القوات النظامية والسلاح الحديث من جهة، والأساليب "الهجينة" مثل الإرهاب، التحالف مع الجريمة المنظمة، الهجمات السيبرانية والدعاية من جهة أخرى. الهدف النهائي: إيقاع أكبر ضرر جسدي ونفسي ممكن. تركيزه كان على الفاعلين غير الدوليين القادرين على دمج حرب العصابات باستخدام التقنيات الحديثة.

في تعريفه الكلاسيكي، يرى هوفمان أن "الحرب الهجينة" هي الاستخدام المتزامن للأسلحة التقليدية، والتكتيكات غير النظامية، وأساليب الإرهاب بما فيها العنف العشوائي، والممارسات الإجرامية. هذه العناصر قد تنفذها وحدات مختلفة أو كيان واحد، لكن المهم أن تنسق بطريقة تخلق تأثيراً مضاعفاً في ساحة المعركة.

تحول المفهوم داخل الناتو والاتحاد الأوروبي

منذ العقد الثاني للألفية، أصبح المفهوم جزءاً من استراتيجية الناتو. وبعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، تضاعف الاهتمام بالموضوع. وجاء مصطلح "التهديدات الهجينة" في بيان قمة الحلف في ويلز. وإذا كان التركيز سابقاً على جماعات غير حكومية مثل "طالبان" و"حزب الله"، فقد تحول بعد 2014 إلى تهديدات الدول: روسيا، إيران، الصين وكوريا الشمالية.

في قمة وارسو عام 2016 أقر الناتو إمكانية تفعيل المادة الخامسة الخاصة بالدفاع المشترك في حال التعرض لاعتداء هجيني. وفي العام نفسه وُقع اتفاق تعاون بين الناتو والاتحاد الأوروبي. ثم أنشئ داخل الحلف مركز لمراقبة التهديدات الهجينة، فيما أطلق الاتحاد الأوروبي إطاراً عاماً للتصدي لها. وفي 2018، صدرت وثيقة مشتركة عن المفوضية الأوروبية لتعزيز صمود المجتمعات أمام هذه الهجمات. كما تأسس في هلسنكي "المركز الأوروبي للتميز في مواجهة التهديدات الهجينة"، وهو مؤسسة فريدة تجمع خبراء من الناتو والاتحاد الأوروبي.

المبادرات الوطنية

أكثر الدول التي أدخلت المفهوم بشكل ممنهج إلى عقيدتها العسكرية كانت الولايات المتحدة، حيث بات جزءاً من كل أفرع الجيش والمناهج التعليمية العسكرية. فنلندا والنرويج تبنتا النهج ذاته، بينما أسست الدنمارك عام 2018 وحدة خاصة لمكافحة التهديدات الهجينة داخل جيشها.

خلال أقل من عقدين، تحولت فكرة وُلدت في مقالات خبراء عسكريين أميركيين إلى عنصر رئيسي في الاستراتيجيات الدفاعية العالمية. واليوم لم يعد مصطلح "الحرب الهجينة" مجرد استعارة، بل واقع يومي يواجهه العالم بأسره. تجاهل هذا الواقع يعني بكل بساطة تسليم النفس لهزيمة مؤكدة في حرب تدور رحاها بالفعل، حتى وإن لم تدركوا بعد أنكم في قلبها.

مفاهيم بديلة وأسباب الحرب الهجينة

النهج الصيني: "الحرب غير المحدودة" و"حروب الثلاثة"
في أواخر تسعينيات القرن الماضي قدّم نظريان عسكريان صينيان، العقيدان في سلاح الجو تشياو ليانغ ووان شيونغسوي، رؤية جديدة لصيغ المواجهة. صاغا مفهوم "الحرب غير المحدودة" (超限战) الذي يتجاوز نطاق الصراع العسكري الكلاسيكي: هجمات إلكترونية، تسميم البنى التحتية الحرجة ببرمجيات خبيثة، تلاعب بأسواق العملات، نشر معلومات مضللة، وتنظيم إرهاب حضري.

لاحقاً ترسخت هذه الأفكار في ما صار يُعرف بـ"حروب الثلاثة" (三种战法) التي طوّرت منذ مطلع الألفية وأصبحت جزءاً رسمياً من عقيدة جيش التحرير الشعبي الصيني. هذه "الخطوط غير التقليدية" الثلاث تشمل الحرب النفسية والمعلوماتية والقانونية؛ الأخيرة تقترح تحويل قواعد القانون الوطني والدولي إلى أدوات ضغط لتحقيق أهداف عسكرية وسياسية، لا سيما فيما يتعلّق بالحدود البرية والبحرية. وفي كتاب أساسي صدر عام 2013 بعنوان «علم الاستراتيجية العسكرية» ظهر للمرة الأولى مفهوم «الاندماج المدني–العسكري»، الذي يعني تعبئة الاقتصاد والدبلوماسية والعلوم ضمن منظومة للردع الاستراتيجي.

التقاليد الغربية: أصول الفكرة وتطويرها
على الجانب الغربي، لم تظهر فكرة "الهجينة" فجأة في العقد الثاني من الألفية؛ جذورها تمتد إلى تسعينيات القرن الماضي عبر نقاشات حول "حروب الجيل الرابع" ومفاهيم مثل "الحرب المركبة" (compound warfare) وغيرها من النماذج النظرية التي تصف مزج الوسائل النظامية وغير النظامية. هذه الدراسات شكلت خلفية مهمة لعمل فرانك هوفمان عند بلورته لمفهوم الحرب الهجينة عام 2007. ومصطلح "المنطقة الرمادية" قريب من هذا الطيف: مواجهة أدنى من مستوى الصراع المسلح المفتوح، تُدار بأدوات سياسية واقتصادية وإعلامية.

النظرة الروسية: "الحرب غير الخطية"
في روسيا، قدّم رئيس الأركان فاليري غيراسيموف في فبراير 2013 تصوّراً يسميه بعض المحللين "الحرب غير الخطية". في مقالة نشرت في «الرسالة الصناعية العسكرية» وصف غيراسيموف كيفية بلوغ الأهداف الاستراتيجية عبر أساليب غير عسكرية: التأثير على الرأي العام، دعم المعارضة السياسية، بل والترويج لما يُسمى "الثورات الملونة". الغرب لأول مرة أمعن النظر في هذا الطرح بعد أحداث 2014 — ضم القرم واندلاع الحرب في شرق أوكرانيا — ومن ثم صار يُشار إليه في الإعلام الغربي أحياناً باسم "عقيدة غيراسيموف". في الأدبيات الروسية عادةً ما تُفهم "الحرب الهجينة" بمعناها غير العسكري: وسائل زعزعة الاستقرار تستهدف تقويض شرعية النظام وبنيته السياسية.

أهداف المهاجمين وفق مراكز الخبرة الأوروبية
يرى المركز الأوروبي لمواجهة التهديدات الهجينة أن الغاية من هذه العمليات هي تدمير الثقة بالمؤسسات الديمقراطية، تضخيم الاستقطاب، تقويض القيم الأساسية للديمقراطية، والتأثير على قدرة صانعي القرار السياسيين — كل ذلك بوسائل تحت عتبة الحرب المفتوحة.

لماذا تنشأ الحروب الهجينة؟
السبب المحوري هو عدم التماثل في القدرات. الدولة الأضعف أو جهة غير قادرة على مواجهة خصمها في مواجهة عسكرية مباشرة تجد في الأسلحة الهجينة حافزاً فعالاً: رخيص نسبياً، لا يتطلب جيشاً ضخماً، لكنه قادر على إحداث أضرار سياسية واقتصادية جسيمة. تتيح الأساليب الهجينة شن حرب استنزاف طويلة الأمد وخلق ضغط مستمر على الخصم.

ميزة استراتيجية أخرى: إنكار المسؤولية. يمكن للدولة المبادر أن تنأى بنفسها عن مسؤوليّة الهجوم، تتفادى العقوبات والعزلة السياسية عبر ما يُعرف بـ"الإنكار المعقول". هذه الغموضية تقلل من المخاطر القانونية والسمعية التي ترافق إعلان حرب مفتوحة.

كما تمنح الحرب الهجينة مرونة مناورة واسعة: رفع أو خفض مستوى الضغوط بحسب الظروف، وهو عامل أساسي في ظل توازن الردع النووي الذي يجعل الصراع المفتوح محفوفاً بعواقب كارثية.

التحديات على الضحية
بالنسبة للدولة المستهدفة، تكمن الصعوبة في طبيعة هذه الهجمات: غامضة، متعددة المستويات، وغير دائماً واضحة الدلالة. الرد غالباً ما يؤدي إلى إجراءات تقيد الحقوق والحريات، تشديد الممارسات الشرطية، ومزيد من السيطرة على وسائل الإعلام — وهي خطوات قد تزيد من الاحتقان الاجتماعي بدلاً من حلّه. بذلك، لا تهدّد الحرب الهجينة الاستقرار الخارجي فحسب، بل تفتعل أزمات داخلية وتحول المجتمع إلى ساحة صراع دائم.

أمثلة معاصرة على الحروب الهجينة
أعطت أحداث 2014 — ضم روسيا لشبه جزيرة القرم وتصاعد الصراع في شرق أوكرانيا — زخماً جديداً للنقاش حول الهجينة. اتهمت دول غربية وأوكرانيا موسكو باستخدام مجموعة كاملة من الأساليب: دعم بشري ومالي وعسكري للجماعات الانفصالية في دونباس، وحملة إعلامية كبيرة. موسكو أنكرت الاتهامات، لكنها واجهت موجة اتهامات أشد بعد اندلاع الحرب الشاملة في أوكرانيا عام 2022.

في يونيو 2024 ربط الاتحاد الأوروبي نظام عقوبات جديداً بعمليات هجينة تتضمن التخريب والعمليات التحريضية والابتزاز الإعلامي والهجمات السيبرية واستغلال الهجرة كأداة ضغط. وفي ديسمبر من العام نفسه فرض الاتحاد لأول مرة عقوبات شخصية على أفراد روس بتهمة المشاركة في هجمات هجينة. ردّ الكرملين كان الإنكار المستمر، فيما وصف وزير خارجيته سيرجي لافروف مواجهة الغرب بأنها على نحو ما "حرب هجينة" لكن بصيغة مغايرة.

نماذج أخرى: الصين في بحريها الجنوبي والشرقي توظف أدوات "المنطقة الرمادية" ضد جيرانها — من استخدام زوارق الصيد كقوات شبه شعبية تقوم بمهام استطلاع واستفزاز، إلى مرافقة أعمال تجريف وصنع جزر اصطناعية — كلها تهدف إلى توسيع سيطرتها على المساحات البحرية وخطوط الاتصال الاستراتيجية.

إيران طورت أيضاً استراتيجيات هجينة عبر ما تسميه "الدفاع المتقدّم"، باللجوء إلى تشكيلات جماعية ووكيلة — محور المقاومة — التي تشمل "حزب الله" وجماعات أخرى تسيطر على مناطق اقتصادية وتنسق مع الحرس الثوري الإيراني (الفيالق الخاصة كقوة القدس) لتنظيم عمليات تخريبية وجمع استخباراتي حتى خارج الأراضي الإيرانية.

خاتمة موجزة
باختصار، الحروب الهجينة ليست ظاهرة موضعية أو عرضية، بل تبدو اليوم كأفق استراتيجي جديد يفرض على الدول إعادة التفكير في مفاهيم الأمن والدفاع. التفوق العسكري وحده لم يعد كافياً لدرء التهديدات؛ المطلوب منظومة شاملة تجمع القدرات الأمنية مع مرونة سياسية وقانونية وقدرة على صمود المجتمع أمام موجات الحرب الناعمة والمقنعة.

ساليب الحرب الهجينة

تتنوع الأدوات التي تشكل ترسانة العمليات الهجينة وتشمل:

  • الهجمات السيبرانية والعمليات التخريبية عبر القرصنة؛
  • الإرهاب وأعمال التخريب؛
  • نشر المعلومات المضللة والتلاعب في الفضاء الإلكتروني؛
  • التخريب الاقتصادي والهجمات على البنية التحتية؛
  • "العمليات تحت راية مزيفة"؛
  • توظيف قوات العمليات الخاصة والاستخبارات؛
  • دعم الجماعات الوكيلة والمتمردين والانفصاليين والحركات المعارضة؛
  • الضغوط الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية؛
  • التدخل في العمليات الانتخابية وتمويل الأحزاب والمنظمات غير الحكومية.

غالباً ما تُستخدم هذه الأساليب مجتمعة، بحيث تخلق هشاشة عميقة لدى الطرف المستهدف وتربك خياراته في الرد.

انتقادات المفهوم

رغم الانتشار الواسع لمصطلح "الحرب الهجينة"، فإنه لا يزال يفتقر إلى تعريف دقيق وموحد. مراكز الأبحاث تتبنى مقاربات مختلفة، كما يشير Small Wars Journal إلى خمس تعريفات على الأقل، كل منها يركز على زاوية محددة: دور الفاعلين غير الحكوميين، أو البعد الإعلامي، أو التنسيق بين القوات النظامية وغير النظامية.

ومع ذلك، يبقى المفهوم مفيداً في تفسير الواقع الراهن: حروب منخفضة الحدة، مشاركة تشكيلات عابرة للحدود، استخدام التكنولوجيا الرقمية، وتزايد تعقيد المزج بين الأدوات التقليدية وغير التقليدية.

ووفقاً للجنة الدولية للصليب الأحمر، شهد العالم عام 2024 نحو 120 نزاعاً مسلحاً شاركت فيه أكثر من 60 دولة وما يزيد عن 120 جهة غير حكومية. معظم النزاعات الإفريقية منذ ستينيات القرن الماضي كانت لها بصمات خارجية. أحدث الأمثلة — أزمة شرق الكونغو الديمقراطية: منذ نهاية 2021 صعّدت جماعة "M23" عملياتها، وبداية 2025 سيطرت على مساحات واسعة في كيفو الشمالية والجنوبية. الأمم المتحدة والدول الغربية اتهمت رواندا بدعم المتمردين وتزويدهم بالسلاح والتقنيات وبإشراك آلاف الجنود النظاميين.

بهذا المعنى، لم تعد الحرب الهجينة فكرة نظرية، بل ممارسة ترسم ملامح صراعات القرن الحادي والعشرين.

غياب تعريف موحد

حتى على مستوى الوثائق الرسمية، لا يوجد حتى الآن تعريف جامع للحرب الهجينة. المفوضية الأوروبية تراها "مجموعة من الأفعال التي يقوم بها فاعلون حكوميون أو غير حكوميين، يستغلون ثغرات الاتحاد الأوروبي مستخدمين مروحة من الأدوات السياسية والعسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، دون الوصول إلى إعلان حرب رسمية".

في الجيش السويسري يُعرّف المفهوم بأنه "مزيج من الأدوات السياسية والاقتصادية والإعلامية والإنسانية وشبه العسكرية لتحقيق أهداف استراتيجية"، مع التأكيد على طابعه غير النظامي والسري.

أما في كتيب وزارة الدفاع الأميركية TC 7-100 فتُوصَف التهديدات الهجينة بأنها "مزيج ديناميكي من القوى النظامية وغير النظامية، إلى جانب عناصر إجرامية، متحالفة لتحقيق مكاسب متبادلة". هذا التعريف انتقل شبه حرفياً إلى العقيدة القتالية للجيش الأميركي (ADP 3-0). في هيكل قيادة التدريب والعقيدة (TRADOC) جاء التوصيف أوسع: يشمل الأدوات السياسية والاجتماعية والإجرامية وأساليب غير قتالية أخرى لتجاوز القيود العسكرية.

في السويد يُستخدم غالباً مصطلح "إشكالية المنطقة الرمادية" (gråzonsproblematik) ضمن مفهوم "الدفاع الشامل"، الذي يقضي بحماية الدولة من أي تهديدات، عسكرية كانت أم غير عسكرية.

جدل وانتقادات

تواجه كل هذه التعريفات انتقادات بسبب غموضها واتساعها المفرط. خبراء يشيرون إلى أن الفهم الواسع يجعل المصطلح بمثابة ملصق جاهز يُلصق بأي فعل عدائي. البرلمان الأوروبي حذّر منذ 2021 من أن غياب المصطلحات الدقيقة يعيق تصنيف التهديدات، يخلط المسؤوليات بين المؤسسات، ويعقد صياغة إجراءات مضادة فعالة.

في المقابل، يقترح بعض الباحثين — خصوصاً المؤرخين العسكريين — تعريفاً أضيق: الحرب الهجينة هي تنسيق فعلي بين القوات النظامية وغير النظامية ضمن استراتيجية واحدة. تاريخياً، اعتمدت هذا النهج منظمات كبرى تملك موارد حرب طويلة الأمد: "الفيت منه" ثم "الفيت كونغ"، "حزب الله" في لبنان، "نمور التاميل"، وفي مرحلة أقرب "داعش" بين 2014 و2017.

خلاصة
يبقى الجدل قائماً: هل "الحرب الهجينة" مصطلح شامل يُستخدم كأداة سياسية وإعلامية، أم أنه إطار محدد لفهم كيفية تمازج الحرب النظامية مع اللا نظامية؟ المؤكد أن الصراعات الحديثة باتت تدور في هذا الحيز، حيث لا حدود فاصلة بين البندقية، وشبكات الإنترنت، وأدوات الاقتصاد والقانون.

مقارنات تاريخية وجدالات أكاديمية

يرى بعض المؤرخين العسكريين، وعلى رأسهم ويليامسون موراي وبيتر مانسور، أن ما يُعرف اليوم بـ"الحرب الهجينة" ليس ظاهرة من القرن الحادي والعشرين، بل مجرد غلاف جديد لأساليب قديمة في الصراع. الممارسات غير المتكافئة معروفة منذ العصور القديمة. مثال بارز هو الحرب البيلوبونيسية (431–405 ق.م) بين أثينا وإسبرطة. حينها حوّل الأثينيون جزيرة بيلوس إلى قاعدة لزعزعة الاستقرار الداخلي في إسبرطة عبر تشجيع ثورات الهيلوت. استُخدم الميسينيون كعناصر دعائية وتخريبية، فأدى تدفق الهيلوت إلى بيلوس إلى إجبار إسبرطة على نشر قوات كبيرة لمنع التمرد، ما أضعفها ودفعها في النهاية إلى طاولة المفاوضات.

صاحب مصطلح "الحرب الهجينة" فرانك هوفمان استشهد هو الآخر بسلسلة طويلة من الأمثلة التاريخية: بعض حملات حرب الاستقلال الأميركية، ممارسات قوات نابليون في إسبانيا، عمليات توماس لورنس خلال الثورة العربية (1916–1918)، الثورة الإيرلندية (1919–1920)، وحرب فيتنام. حتى الحرب العالمية الثانية، رغم طابعها التقليدي الكاسح، لم تخلُ من دور حاسم لحركات المقاومة في الاتحاد السوفييتي والصين وفرنسا، التي شلّت خطوط الإمداد الألمانية واليابانية، فيما رافقت الدعاية والإعلام كل مراحل المواجهة.

الحرب الباردة: حين تصبح الهجينة قاعدة
خلال الحرب الباردة أصبحت "الهجينة" أقرب إلى الوضع الطبيعي. فيتنام الشمالية اعتمدت في حرب التوحيد على الجيش النظامي بالتوازي مع قوات "الفيتكونغ"، ونفّذت عمليات تخريب وإرهاب وسابوتاج. الولايات المتحدة ردّت بعمليات سرية قادتها وكالة الاستخبارات المركزية، درّبت وسلّحت جماعات مناهضة للشيوعية مثل الهمونغ في لاوس لمحاربة "باتيت لاو" وحلفاء هانوي. هكذا حاولت واشنطن تقطيع شرايين الإمداد التي كانت تنقل السلاح والرجال جنوباً.

نقاشات في الأوساط الأكاديمية
الخلاف بين الباحثين لا يزال قائماً: هل تُخاض الحروب الهجينة على المستوى التكتيكي في ساحة المعركة، أم على المستوى الاستراتيجي؟ فريق يرى أنها تتجلى في دمج الوسائل النظامية وغير النظامية على خط الجبهة. آخرون يشددون على بعدها الاستراتيجي الأشمل، الهادف إلى تقويض الدولة وزعزعة معنويات المجتمع.

الباحث الكندي جان-كريستوف بوشيه يركز على خاصية أساسية للحروب الهجينة: الانخراط الواسع للمدنيين والجهات غير الحكومية. فيما يلفت العقيد الأميركي جون ماككوين إلى أن أهداف الحرب الهجينة لا تقتصر على الجيوش، بل تشمل أيضاً سكان الدولة المستهدفة، وسكان الدولة المعتدية نفسها، والرأي العام الدولي. بهذا المعنى، الحرب الهجينة ظاهرة متعددة الأبعاد يتقاطع فيها العسكري مع الاجتماعي والإعلامي.

واقع جديد للسياسة الدولية
الحرب الهجينة ليست مصطلحاً فضفاضاً من تقارير العسكريين، ولا لعبة لغوية. إنها الواقع الجديد للسياسة العالمية، حيث لم تعد خطوط الجبهات مرسومة في الخنادق والمدن فقط، بل تمر عبر الكابلات والبنوك، عبر وعي الجماهير والرأي العام، عبر الهواتف الذكية ومواقع التواصل، عبر الثقة بالمؤسسات وشرعية السلطة.

خلافاً للحروب الكلاسيكية، الحرب الهجينة لا تبدأ بإعلان ولا تنتهي بتوقيع معاهدة، ولا ترافقها مواكب النصر. إنها حرب غير مرئية، ممتدة زمنياً، تدمج الأبعاد العسكرية والاقتصادية والإعلامية والثقافية. كل شيء فيها يتحول إلى سلاح: الكلمة، العقوبات، مقطع فيديو فيروسي، هجوم إرهابي، اختراق الخوادم، أو موجة لاجئين. إنها حرب يمكن للعدو أن ينكر تورطه فيها، حيث المسؤولية ضبابية، والهزيمة قد تقع قبل أن تُطلق الطلقة الأولى.

دروس التاريخ ورسالة الحاضر
التاريخ يثبت أن الأساليب غير المتكافئة والمركبة رافقت البشرية دائماً: من ثورات الهيلوت في إسبرطة إلى حروب العصابات في القرن العشرين. لكن القرن الحادي والعشرين منحها طابعاً عالمياً ومنهجياً. الهجينة اليوم لم تعد الاستثناء بل صارت القاعدة. لا دولة — قوية كانت أم ضعيفة — في مأمن من ضرباتها. وكلما كان المجتمع أكثر انفتاحاً وديمقراطية، ازداد تعرضه للتلاعب والتخريب الإعلامي والسياسي.

الحرب الهجينة تحدٍّ للمستقبل: تجعل الكوكب مسرحاً دائماً للصراع، حيث يتداخل السلم والحرب، وحيث يصبح العمق الداخلي جبهة، ويُختزل كل مواطن في هدف أو أداة. المنتصر فيها ليس من يملك المزيد من الدبابات والصواريخ، بل من يحمي قيمه، ويحصّن مجتمعه، ويزرع مناعة ضد الفوضى والأكاذيب.

وفيما كان السلام في الماضي يُختم بتوقيع المعاهدات، فإن السلام في عصر الهجينة لا يتجاوز كونه هدنة بين هجوم وآخر. والسؤال الجوهري: هل نحن مستعدون للاعتراف بأن الحرب قائمة بالفعل حتى وإن لم نرها؟ لأن من يرفض الاعتراف بالواقع، يخسر حتماً المعركة قبل أن تبدأ.

الوسوم: